يستمر عجز السلطات التونسية على احتواء كتلة الأجور لعام إضافي بعد تسجيل زيادة بـ217 مليون دينار (نحو 79 مليون دولار) هذا العام، وتوقعات ببلوغ نفقات الأجور 17 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
ويأتي ذلك العجز وسط مخاوف من تأثير انفلات نفقات الأجور على علاقة تونس بشركائها الماليين وقدرتها على تعبئة الموارد لتمويل موازنة العام القادم، في ظل لجوء الحكومات المتعاقبة إلى عمليات توظيف عشوائي من دون وجود موارد مالية كافية، حسب مراقبين لـ”العربي الجديد”.
ولم تنجح حكومات تونس في السنوات الأربع الأخيرة من النزول بكتلة الرواتب وتنفيذ تعهدات الدولة بجعلها في حدود 12 بالمائة من الناتج المحلي وفق اتفاق موقّع مع صندوق النقد الدولي عام 2016.
ويضع انفلات كتلة الأجور حكومة هشام المشيشي، التي تستعد لمفاوضات جديدة مع صندوق النقد الدولي، أمام اختبار إقناع شركاء تونس الماليين بوجاهة قرار زيادة رواتب موظفي القطاع الحكومة وإدماج 31 ألف عاملا جديدا كانوا يشتغلون بعقود هشةّ.
ومؤخرا وقّعت الحكومة مع الاتحاد العام التونسي للشعل اتفاقا تم بموجبه إدماج 31 ألف عاملا من عمّال الحضائر (يشتغلون بعقود عمل مؤقتة) في القطاع الحكومي بعد سنوات من الانتظار.
وقال وزير الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار، علي الكعلي، في تصريحات صحافية مؤخرا، إن تسوية وضعية عمال الحضائر سيكلف الدولة مليار دينار سنويا ستنضاف إلى كتلة الأجور المقدرة بـ20 مليار دينار (الدولار = 2.75 دينار).
وقدرت الحكومة حجم كتلة الأجور في مشروع موازنة 2021 بـ20 مليار دينار (7.2 مليارات دولار)، أي ما يعادل 17 بالمائة من الناتج الداخلي الخام. كما ضبطت عدد موظفي القطاع العام بـ644 ألف موظفا.
وتتعرض البلاد لضغوط من مقرضين دوليين لإجراء إصلاحات اقتصادية وتجميد أجور القطاع العام التي زادت إلى أكثر من 19 مليار دينار في 2020 مقابل من 7.6 مليارات دينار عام 2010.
ويعتبر الخبير الاقتصادي، معز الجودي، أن نفقات الدولة، ولا سيما المتعلقة بالأجور، أصبحت عبئا كبيرا على الموازنة يقابلها ضعف كبير في نفقات التنمية والمشاريع العامة التي تخلق الثروة.
وقال الجودي في تصريح لـ”العربي الجديد” إن تونس لم تلتزم بشروط الإصلاح الاقتصادي ومنها كبح كتلة الأجور، مرجحا أن يؤثر ذلك على شروط التفاوض مستقبلا مع صندوق النقد الدولي وباقي الشركاء الماليين.
وشدد الخبير الاقتصادي على ضرورة وجود تناغم بين الأجور وقدرة الاقتصاد على خلق الثروة.
وتوقع الجودي أن تشهد علاقة تونس بصندوق النقد الدولي، بعض الصعوبات خلال المفاوضات المقبلة، خاصة أن البلاد في حاجة إلى نحو 6 مليارات دولار من القروض الخارجية لتوفير حاجات الموازنة ومن بينها نفقات الأجور.
ومن جانبه، قال مسؤول كبير بصندوق النقد الدولي، إن تونس ستجري مناقشات مع الصندوق في الأسابيع القليلة المقبلة، وقد تطلب مزيداً من التمويل.
واتفقت تونس مع صندوق النقد في شهر إبريل/نيسان الماضي على اقتراض 743 مليون دولار، للمساعدة في مواجهة الضرر الاقتصادي الناجم عن جائحة فيروس كورونا، وذلك بعد أن حل أجل برنامج سابق لقرض طويل المدى من الصندوق أيضاً.
وقال مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى لدى صندوق النقد، جهاد أزعور، في تصريحات لـ”رويترز”: “قد يطلبون تسهيلات تمويل أخرى… لم يفعلوا ذلك حتى الآن”.
ويرى الخبير المالي، خالد النوري، أن السياسات العامة للبلاد وعلاقة الحكومة بباقي شركاء الحكم (الأحزاب الممثلة في البرلمان) والنقابات العمالية، لم تكن تسمح برسم خطة واضحة من أجل كبح نفقات الأجور، معتبرا أن انفلات النفقات الخاصة بالرواتب هي نتيجة حتمية لوقوع السلطة تحت ضغط طلبات النقابات العمالية والأحزاب التي تدفع نحو إغراق القطاع العام بالتوظيف العشوائي.
ويرجّح النوري في تصريحه لـ”العربي الجديد” تواصل النزيف لسنوات لاحقة بسبب الاحتقان الاجتماعي وضغوط النقابات واحتجاجات طالبي الشغل، إلى جانب التزام الحكومة بتنفيذ اتفاقات سابقة للزيادات في الأجور وتوظيف العاطلين عن العمل ممن طالت بطالتهم أكثر من 10 سنوات.
وفي شهر سبتمبر/ أيلول الماضي صادق برلمان تونس على قانون يقضي بالانتداب المباشر لحاملي الشهادات الجامعية ممن طالت بطالتهم أكثر من 10 أعوام.
وقال رئيس الحكومة إن الدولة ستلتزم بكل الاتفاقات الموقع عليها في ما يتعلّق بصرف الزيادات في الأجور وتسوية الوضعيات المهنية الهشة.
وتتوقع تونس انكماش اقتصادها سبعة في المائة هذا العام، وأن يزيد عجزها المالي إلى 14 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أعلى مستوى خلال نحو أربعة عقود. وتلقى البلد دعماً مالياً من الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، إلا أنه لم يكن كافيا لمواجهة الأزمة المالية الخانقة.
وحتى قبل الجائحة، كانت تونس تعاني في ظل نمو اقتصادي بطيء وارتفاع البطالة وتراجع في الخدمات العامة منذ اندلاع الثورة عام 2011.