أحدث تطبيق “فوتوشوب” عام 1990 ثورة في عالم معالجة الصور، وكثيرا ما أشير إليه بوصفه قاتلا للديناصورات، ولأول مرة يصبح بمقدور الهواة منافسة المحترفين بفضل سرعة الإنجاز وتقليص الكلفة. ما حدث منذ ثلاثة عقود مع “فوتوشوب” تحاول اليوم شركة ناشئة إنجازه في المجال السمعي والبصري مستعينة بالذكاء الاصطناعي.
من منا لا يتذكر تطبيق “فوتوشوب” الذي أصدرته شركة “أدوبي” في بداية التسعينات. التطبيق الذي أحدث ثورة في عملية معالجة الصور، لتصبح الكلفة، التي كانت تصل إلى 300 دولار في الساعة وتدفع لتقنيين مختصين بمعالجة الصور، شبه مجانية فجأة.
في عام 1987 بدأ، توماس نول، وهو طالب يحضر للدكتوراه في جامعة ميشيغان، بكتابة برنامج أطلق عليه اسم “دسبلاي” على جهاز “ماكنتوش بلس” لعرض صور التدرج الرمادي على شاشة أحادية اللون؛ استرعى البرنامج انتباه شقيقه جون نول، الموظف في شركة “أندستريال لايت أند ماجيك” فنصح أخاه بأن يحوله إلى برنامج كامل لمعالجة الصور.
انقطع توماس عن الدراسة لمدة ستة أشهر خلال عام 1988 ليتفرغ للمشروع الذي تعاون في إنجازه مع شقيقه. غيّر توماس تسمية البرنامج إلى “إيميج برو”، ليكتشف أن الاسم كان مستخدما، وفي وقت لاحق من ذلك العام، قام بتغيير الاسم للمرة الثانية ليستقر على اسم “فوتوشوب”، وعقد اتفاقا مع شركة “بارني سكان” المصنعة للماسحات الضوئية، فتقوم الشركة بموجبه بتوزيع نسخة من البرنامج مع كل جهاز، ليتم بهذه الطريقة توزيع نحو 200 نسخة من البرنامج.
في الأثناء، قام جون بزيارة إلى “وادي السيليكون” ليقدم عرضا للتطبيق أمام مهندسين في شركة أبل، بحضور راسل براون، المدير الفني في شركة أدوبي، ونجح في كلا العرضين، وقررت شركة أدوبي شراء ترخيص للتوزيع في سبتمبر 1988، وبينما كان جون يعمل على المكونات الإضافية في ولاية كاليفورنيا، بقي توماس بميشيغان لكتابة التعليمات البرمجية، وفي 19 فبراير من عام 1990 تم إصدار النسخة الأولى لفوتوشوب وكانت مكتوبة حصريا للعمل مع أجهزة “ماكنتوش”.
تضمنت نسخة فوتوشوب مزايا متقدمة لتحرير الصور، ومع كل إصدار جديد تضاف ميزات ومهام تحسن من التعامل مع الصور وتضيف المزيد من المؤثرات التي كانت في الماضي مقتصرة على مصورين محترفين، وسرعان ما أصبح البرنامج معيار صناعة تحرير الصور الرقمية.
الثورة التي أحدثها فوتوشوب منذ ثلاثة عقود، تتطلع اليوم شركة تشيلية ناشئة إلى القيام بمثيل لها، بالعمل على تطوير منصة أطلقت عليها اسم “رن أوي”، تخطط لطرحها خلال السنوات القليلة القادمة.
قامت الشركة بتطوير منصة ذكاء اصطناعي تطمح إلى إحداث ثورة في عملية الإنتاج الصوتي والمرئي، الذي يشمل الموسيقى والأعمال الفنية البصرية.
حتى اليوم، طالت الثورة التي أحدثها الذكاء الاصطناعي مختلف الصناعات والأسواق والخدمات، ولم يبق خارج هذا التأثير نسبيا سوى الصناعات الإبداعية وعالم الفن، حيث ما زالت تأثيرات تكنولوجيا الذكاء على هذا القطاع محدودة للغاية.
ما أحدثه الأخوين الأميركيين من ثورة في عالم الصور، يحاول اليوم إحداثها ثلاثة من رواد الأعمال في تشيلي، باستخدام تقنيات جديدة تسمح للمبدعين وصانعي الأفلام الهواة والعاملين في حقل الإبداع البصري، عموما، وصناعة الأفلام والموسيقى باستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي في عملهم.
الشركة التي تحمل اسم المنصة “رن أوي” وقد تخصصت بالفنون الإبداعية من خلال دمج التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي في عالم الفن والإبداع، تأسست في نهاية عام 2018 من قبل كريستوبال فالينزويلا، وأليخاندروا ماتامالا، وأناستاسيس غيرماندز.
بنيت فكرة المشروع على أطروحة في جامعة نيويورك حيث التقى الشركاء الثلاثة، أثناء تحضيرهم لشهادة الدراسات العليا.
وعلى عكس التطبيقات الأخرى التي تعمل بشكل مستقل، راهن الشركاء على ربط التطبيق الجديد بسحابة رقمية تسمح لهم بإنشاء محتوى سمعي بصري وتعديله وتحريره تلقائيا باستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي.
ويشرح فالينزويلا قائلا “إنشاء محتوى سمعي بصري بالطرق التقليدية التي استخدمناها على مدى عقود، عملية بطيئة ومكلفة وصعبة أيضا بلا داع. بينما باستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي، يمكن لأي شخص إنشاء رسوم متحركة فائقة الواقعية في ثوانٍ وتحريرها تلقائيا. وهو شيء تملكه حاليا هوليوود أو شركات أخرى كبيرة إضافة إلى عمالقة المؤثرات الخاصة”.
ويتابع فالينزويلا بحماس “التطبيق يضفي طابعا ديمقراطيا يسمح بوصول التكنولوجيا إلى أكبر عدد ممكن من المبدعين. فالتقنية الجديدة غيرت الطريقة التي ينشأ فيها المحتوى بشكل جذري لأن الخوارزميات قادرة بالفعل على إنشاء الصور والنصوص والفيديو والصوت بطريقة فائقة الواقعية”.
ويعلق زميله اليخاندرو مضيفا “إذا وضعنا هذه الأدوات في أيدي أشخاص لم يسبق لهم الوصول إليها من قبل، سيبدأون بالتفكير في طرق جديدة لإنتاج أعمال فنية وإنشاء محتويات لها بما في ذلك رواية القصص”.
ردود الفعل المشجعة حول المنصة بدأت من اللحظة الأولى التي غردوا فيها يسألون من لديه الاستعداد لاستخدام أداة تشبه الأداة التي يفكرون في تطويرها. وفي أقل من 48 ساعة جاءتهم الإجابات من مهندسين وفنيين عاملين في فيسبوك وغوغل، ومن الجامعات، وحتى من وسائل الإعلام. كل شيء كان يشير إلى أن الأسواق متعطشة لأداة تعتمد الخوارزميات والذكاء الاصطناعي، تساعد في إنتاج الأعمال الإبداعية، وتقلل من الجهد المبذول ومن كلفة الإنتاج.
حصل ذلك مع فوتوشوب في معالجة الصور، ماذا يمنع من تكرار نفس قصة النجاح مع المهام الفنية الأخرى؟
مندفعين بردود فعل إيجابية وصلتهم، سارع الزملاء الثلاثة لإنشاء الشركة، ولم يقفوا لينظروا وراءهم منذ تلك اللحظة. كان المسار الذي سلكوه بالفعل سريعا، وسرعان ما حظوا باهتمام من صناديق الاستثمار المختلفة.
وفي نفس العام الذي أنشأوا فيه المنصة، استطاعوا جذب 2 مليون دولار من شركات أميركية متخصصة في الأبحاث التكنولوجية الناشئة.
وكان نجاح ألبوم غنائي لفريق الروك “ياكت” وترشيحه لنيل جائزة جرامي الموسيقية، حافزا لهم لبذل المزيد من الجهد، حيث قام الفريق المذكور بإنتاج المحتوى السمعي والبصري بالاعتماد كلية على المنصة “رن أوي”؛ وتلا ذلك إنتاج العديد من الأفلام السينمائية.
كانت هناك استجابات سريعة من الوسط الأكاديمي، الذي أبدى اهتماما واضحا بالميزات السحابية للمنصة، ما دفعهم إلى إقامة تحالفات مع جامعات مختلفة في الولايات المتحدة، مثل جامعة نيويورك، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس؛ بينما في تشيلي، تم استخدام المنصة من قبل ثلاثة من أكبر الجامعات هناك.
كل خطوة تنجزها المنصة تمهد الطريق نحو المستقبل، وهذا هو بالضبط الرهان الذي راهن عليه مؤسسوها. وقد دعموا هذا النجاح من خلال دورات تدريبية لفنانين وباحثين، والإصغاء لمطالبهم للعمل على إغناء المنصة بالميزات الجديدة التي تضاف تباعا.
هذا النجاح أوقفه قليلا تفشي جائحة كورونا، إلا أنهم متفائلون بإمكانية العودة لاستئناف عملهم في غضون أسابيع قليلة أخرى، انطلاقا من مقرهم الرئيسي في بروكلين، وسط مدينة نيويورك.
ويعتقد محللون أن آثار المنصة على عالم صناعة الفن ستكون ثورية أكثر من الآثار التي نجمت عن تعميم استخدام فوتوشوب في عالم معالجة الصور. وأن التطبيق سيغري شركات ناشئة وأفرادا في دول فقيرة للدخول في مغامرة الإنتاج الفني السينمائي والموسيقي والإعلاني، يشجعهم على ذلك رخص التكنولوجيا الجديدة التي وصفت بـ”خبز الفقراء” مقارنة بكلفة الإنتاج الحالية التي يدفعها عمالقة هوليوود.