عدم الالتزام بدفع كلّ «الفريش دولار» للمودعين، إجبار الزبائن على تجميد شيكاتهم لمدّة زمنية قبل الاستفادة منها، عدم تكوين المؤونات المطلوبة… غيض من فيض مخالفات المصارف لتعاميم صادرة عن «الوصيّ» عليها، مصرف لبنان. علناً، تُجاهر المصارف برفضها الالتزام، من دون أن تجد من «يهزّ لها العصا». ففي كلّ مرّة، يُقدّم «المركزي» لها الحبل للنزول عن الشجرة، حتى ولو كان في سلوكها إساءة إلى حقوق المودعين، علماً بأنّ القانون يُتيح له إجراءات عديدة، تصل إلى الاستحواذ على المصرف
في الفترة المُمتدة بين 1 تموز 2019 حتى تاريخه، أصدر مصرف لبنان 8 تعاميم أساسية (واحدٌ منها يتعلّق بإنشاء المنصّة الإلكترونية لعمليات الصرافة)، و55 تعميماً وسيطاً (التعميم الوسيط هو تعديل لتعميم أساسي صادر سابقاً). الجهة التي يرسل إليها هذه التعاميم هي المصارف التجارية والمؤسسات المالية العاملة، الخاضعة لقانون النقد والتسليف. وهذا القانون يُلزمها بالامتثال إلى تعاميم «المركزي»، لا أن تختار منها ما تُطبّقه وما تتجاهله. لكنّ وجود القانون لا يعني أنّ المصارف تلتزم بقرارات السلطة النقدية (مصرف لبنان). على العكس من ذلك، هي نَمَت إلى درجة أنّها باتت تعتبر نفسها أسمى من أي محاسبة، لا تُطبّق سوى ما يُناسب مصلحتها. وإجمالاً، المصارف من «الفئة ألفا»، أي التي تستحوذ على الحصّة الأكبر في السوق، هي العُنصر «غير المُنضبط»، وبعضها لا يبذل أي جُهد لإخفاء مخالفته القوانين، إذ يجاهر أصحابها بأنّهم لن يمتثلوا لتعاميم مصرف لبنان.
مسؤولون في لجنة الرقابة على المصارف يوضحون أنّه «صحيح أنّ، في معظم الأحيان، المصارف تُقرّر أن لا تلتزم بالتعاميم إن كانت غير مُلائمة لها، ولكن في حالات أخرى، تشوب بعض التعاميم ثغرات تُصعّب من عملية تطبيقها». كلام لا ينطبق مع الواقع. فبحسب ما يُخبر نائب حاكم مصرف لبنان، سليم شاهين، «دور المصرف المركزي يتمثّل في وضع السياسة النقدية وإصدار التعاميم، أمّا من ناحية مراقبة الالتزام فهذه من صلاحية لجنة الرقابة على المصارف، التي تُصدر التعاميم والمذكّرات التطبيقية وتُتابع تنفيذها مع المصارف». إذاً يُفترض بالتعاميم والمُذكرات التطبيقية أن تُزيل أي التباس.
من بين التعاميم التي صدرت في الفترة الماضية، ثلاثة برزت فيها مخالفات المصارف لها؛ الأول، هو التعميم الرقم 150 الصادر في 9 نيسان الماضي، حول «الأموال الجديدة» المُرسلة من الخارج. وقد أُعفيت المصارف بموجبه من إيداع الاحتياط الإلزامي (نسبة من كل وديعة، يجب على المصرف أن يودعها في مصرف لبنان) لدى مصرف لبنان، شرط أن تلتزم بالسماح للمودع بحرية التصرّف بالأموال الجديدة بالدولار. في تلك الفترة، كان الحاكم رياض سلامة هو «القائم بأعمال» لجنة الرقابة على المصارف (انتهت ولاية اللجنة السابقة في 25 آذار)، وكان يُفترض به أن يُصدر التعميم التطبيقي للتعميم الرقم 150 حتى لا يُشكّل غيابه أي حُجّة للمصارف لعدم الالتزام. ولكنّ التعميم التطبيقي تأخّر حتى 18 آب الماضي (بعد قرابة شهرين على تسلم اللجنة الجديدة برئاسة ميّة دبّاغ). وفي الأشهر الفاصلة بين التعميمين، كان بعض المصارف يعطي المودع 80% من قيمة المبلغ «الفريش» ويحتفظ بـ20%، أو يأخذ 2% عمولة على العملية، أو يسأل الزبون تقديم طلبٍ وتحتاج المعاملة إلى أكثر من أسبوع حتّى تنتهي، أو يضع قيوداً على إعادة تحويل المبلغ إلى الخارج والدفع عبر البطاقة، أو اشتراط تحويل جزء من المبلغ بالدولار إلى الليرة اللبنانية، أو تجميد المبلغ لفترة مُعيّنة… حتّى بعد صدور التعميم التطبيقي، استمرّت مصارف في السطو على دولارات الناس، «ولكن نحن لن نعرف ذلك إن لم يشتكِ الزبون، وفي بعض الأحيان يكون هو راضياً عما يطلبه المصرف»، تقول مصادر لجنة الرقابة على المصارف.
التعميمٌ الثاني الذي تُخالفه مصارف، وله علاقة مُباشرة بالمودعين، يتعلّق بالشيكات. في 2 تشرين الأول، أصدرت لجنة الرقابة على المصارف مُذكّرة تطلب فيها من المصارف «عدم رفض الشيكات التي يودعها العملاء في حساباتهم الجارية لدى المصرف إلا لأسباب مشروعة (…) وعدم فرض تجميد قيمة الشيكات المودعة من العملاء و/أو قيمة التحاويل الواردة إلى حساباتهم». تقول مصادر «لجنة الرقابة» إنّ شكاوى تصل إليها حول مخالفات لهذا التعميم، وتحديداً في ما خصّ فرض تجميد الشيكات لفترة مُعينة قبل الاستفادة منها. ما هي الإجراءات المُتخذة إذاً؟ «دورنا أن نُراقب ونُدقّق ونُقدّم التوصيات للمصارف، ونرفع تقريراً لحاكم مصرف لبنان، الذي تعود له مُنفرداً إحالة الملفات على الهيئة المصرفية العليا أو عدم الإحالة. إجمالاً، لا تُحال إلا المُخالفات الكُبرى». وتوصيف «الكُبرى» قد لا يشمل بالضرورة المخالفات التي تؤثّر في يوميات المواطنين وقدرتهم الاستهلاكية وحرية تصرفهم بأموالهم، وقد لا تعتبرها «الجهات المصرفية الضامنة» أساسية. من جهته، يُصرّ نائب الحاكم، سليم شاهين على أنّ «المصارف مُدركة حساسية الوضع وأهمية تطبيق التعاميم، ما يجعل اللجوء إلى المادة 208 من قانون النقد والتسليف، التي أعطت المركزي الحق في إنزال العقوبات الإدارية على المصارف التي لا تلتزم بتعاميمه، بدءاً بالتنبيه وصولاً الى الشطب، غير ضروري في هذه المرحلة».
أما التعميم الثالث، فهو التعميم الوسيط الرقم 532، الذي أصدره «المركزي» في 4 تشرين الثاني 2019، يطلب فيه من المصارف زيادة رساميلها بنسبة 10% في مُهلة حدّها الأقصى 31 كانون الأول 2019، وبنسبة 10% إضافية في مُهلة حدّها الأقصى 30 حزيران 2020. بعد ثلاثة أشهر من انتهاء المهلة الأولى، لم يكن قد نفّذ التعميم إلّا 4 مصارف فقط من أصل 21 مصرفاً تقدّمت بطلبات لزيادة الرأسمال، في مقابل 16 مصرفاً تقدّمت بطلبات من «المركزي» للموافقة (أو لأخذ العلم) على الإعفاء من الزيادة أو تمديد المهلة. وتبيّن أنّ 14 مصرفاً لم تتقدم بأي طلب. اللافت أن يكون من بين الفئة الأخيرة «المُتجاهلة» لتعميم مصرف لبنان، «بنك بيروت» لصاحبه رئيس جمعية المصارف، سليم صفير!