الاتفاق مع العراق للحصول على النفط الخام مؤجّل. دخلت على الخط الأزمات الدولية الكبرى. واشنطن لن تسمح بإعادة تشغيل خط نفط كركوك حتى لو كانت المبادرة فرنسية، فيما مافيا النفط اللبنانية تقف بالمرصاد لأيّ حل لا يضمن مصالحها المضمونة بالعقد مع «سوناطراك». في غضون ذلك، لا يزال البديل الفعلي، أي إجراء مناقصة لاستقدام الفيول، معلّقاً على الصراع بين وزارة الطاقة وإدارة المناقصات، وسط بارقة أمل بإمكان الاتفاق بين الطرفين اليوم
لقاءات عدة جمعت المدير العام للأمن العام عباس إبراهيم ووزير الطاقة والمياه اللبناني ريمون غجر برئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي ووزير النفط العراقي إحسان عبد الجبار في بغداد وبيروت. ما بات شبه مؤكد أنها لقاءات محكومة بالفشل. فعقد اتفاق مع الحكومة العراقية لاستيراد الفيول والغاز أويل صعب، إن لم يكن مستحيلاً. والأسباب عديدة، أبرزها أنه منذ شيوع خبر بدء المحادثات العراقية ــــ اللبنانية للتزود بالنفط بعيداً عن عقد «سوناطراك» الجزائرية، واندلاع قضية الفيول المغشوش التي لا تزال مدار تحقيقات قضائية، تسعى مافيا النفط الى اللعب على تفاصيل صغيرة في الاتفاقية لإجهاضها. والهدف، الإبقاء على العقد مع «سوناطراك» تحت التهديد بالعتمة الشاملة.
وهذا ما حصل فعلاً غداة قرار الحكومة اللبنانية وقف عقد الشركة الجزائرية، فيما هناك من يسعى منذ ذلك الحين الى الالتفاف على القرار ومفاوضة الجزائريين لإعادة العمل بما كان متفقاً عليه. لذلك، رفع الجزائريون سقف مطالبهم، والتهويل بغرامات في حال عدم تنفيذ طلب كميات النفط المنصوص عليها في العقد. وعندما طلب وزير الطاقة مدّ لبنان بهذه الكميات، تمنّعت الشركة مشترطة دفع المستحقات المتوجبة على الدولة اللبنانية وسحب الدعوى القضائية، الأمر الذي عارضه رئيس الجمهورية ميشال عون، رافضاً الاعتذار عما صدر في الإعلام اللبناني بشأن «سوناطراك». عندها هدّدت الشركة باللجوء الى التحكيم الدولي، علماً بأن هناك من يؤكد أن التحكيم يسقط تلقائياً لأن الشركة ارتكبت جرماً جزائياً بحق لبنان، والمشكلة تحولت إلى جنائية بعد اعتراف الشركة ضمناً بالجرم بمجرد موافقتها على استبدال الشحنة بأخرى، لتكرّ سبحة التحقيقات في الرشى المدفوعة وإدخال شركات أخرى غير مذكورة بالعقد.
وقد بدا أثر كارتيل النفط واضحاً في محاولته مجدداً حماية شبكته المؤلفة من سياسيين ونافذين ورجال أعمال، ما أدى الى عدم ظنّ قاضي التحقيق الأول بـ«سوناطراك» وإرجائه الملف ليعاد تبليغها أصولاً. كذلك فعلت الهيئة الاتهامية، ما دفع النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون الى استئناف القرار أمام الهيئة الاتهامية، وتمييز القرار الاتهامي أخيراً لناحية الشركة الجزائرية. واكتملت حلقة المافيا مع رفض حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، كونه رئيس هيئة التحقيق الخاصة، تزويد القاضيين عون ونقولا منصور بالمبالغ المدفوعة من قبل الدولة لقاء بواخر الفيول، وبحركة الأموال الخاصة بالمدعى عليهم. وحجته في ذلك عدم تطابق الطلب مع أحكام القانون 44/2015 أي قانون تبييض الأموال ومكافحة الإرهاب. فيما تؤكد مصادر أن هذه الحجة انتفت مع صدور قرار برفع السرية المصرفية بهدف إجراء التدقيق الجنائي في مصرف لبنان وكل المؤسسات العامة والوزارات، وبات الحاكم ملزماً بالاستجابة لطلب القاضيين. لذا يتوقع أن تعيد عون الطلب منه تزويدها بهذه المعلومات.
في غضون ذلك، تتابع «الطاقة» مساعيها للوصول الى صيغة مجدية لاستقدام النفط العراقي الذي لا يمكن استعماله بمواصفاته ويفترض تكريره. من ضمن المسألة نفسها، وصل الأمر ببعض المؤثرين في الملف الى اقتراح شركة يتعامل معها آل البساتنة لتكرير النفط العراقي إذا ما وصل الاتفاق الى خواتيم سعيدة! وفي سياق آخر، تقول مصادر مطلعة على المحادثات الفرنسية ــــ اللبنانية إن الجانب الفرنسي اقترح من ضمن الرزمة الحكومية، إعادة تشغيل خط النفط من كركوك الى طرابلس. وهي صفقة مفيدة للطرفين. فمن جهة، يحصل الفرنسي على الفيول العراقي، ما يوفر عليه الالتفاف من موانئ العراق مروراً بالخليج العربي وقناة السويس. ومن جهة أخرى، يؤمن لبنان حاجته من الفيول موفراً كلفة النقل. إذ إن خط كركوك ــــ طرابلس لا يزال في الخدمة، والمشكلة التي تستدعي الصيانة بين حمص والحدود السورية ــــ اللبنانية كلفتها ضئيلة أمام قيمته الاقتصادية العالية إذا ما أعيد تشغيله. لكن هذا «يبقى حلماً»، على ما تشير مصادر مطلعة. فإعادة تشغيل هذا الخط لا يمكن أن تمر من دون موافقة الولايات المتحدة التي تعتبره هدية مجانية لكل من روسيا وإيران للتحكم بصادرات النفط في هذه المنطقة. إذ يؤكد تقرير نشره موقع «أويل برايس» الأميركي عام 2019 أن «إعادة تشغيل خط كركوك ــــ طرابلس ستؤدي إلى عواقب سياسية واقتصادية واستراتيجية طويلة المدى بالنسبة إلى الدول المعنية والمنطقة ككل». وهناك من يربط بين الحريق الذي اندلع منذ شهرين في أنبوب لنقل النفط في منطقة العبدة شمال لبنان كان يستخدم لنقل النفط من العراق، وبين حديث الفرنسيين عن رغبتهم في إعادة تشغيل هذا الخط، مع احتمال أن يكون هذا الحريق بمثابة رسالة.
ما سبق، معطوفاً على إصرار ضمني لدى التيار الوطني الحر بقطع الطريق على محاولة العودة الى «سوناطراك» تحت وطأة الحاجة والخوف من العتمة، أدى الى استعاضة وزارة الطاقة عما كان يجب أن توفره الشركة، بشراء النفط عبر مناقصات فورية spot cargo تؤدي الى شراء كل شحنة بشحنتها، الى حين التوافق مع إدارة المناقصات على دفتر شروط واضح لعقد مناقصة طويلة الأمد. وعلمت «الأخبار» أن اجتماعاً سيعقد اليوم بين غجر ورئيس إدارة المناقصات جان عليّة لإيجاد حلّ لنقطة الخلاف الرئيسية في دفتر الشروط الذي أعادت «الطاقة» تعديله، والمتعلقة بـ«صفة الشركات». عليّة أكد لـ«الأخبار» أنه وغجر تمكّنا من الوصول الى «صيغة غير رسمية حول دفتر الشروط بعد اقتناع الوزارة بأن المشكلة ليست في العقد، بل في تطبيقه والرقابة عليه». الخلاف اليوم يتمحور حول «من يسمح له بالمشاركة في المناقصة، وقد طلبتُ من الطاقة الكشف بوضوح عن الصيغة التي يرغبون فيها، بعيداً عن الغموض حتى لا تنشب مشكلة تفسير نصوص يوم إجراء فضّ العروض». فوزارة الطاقة تفضل استبعاد اسمَي الشركتين الواردتين في القرار الاتهامي (رحمة والبساتنة)، وهو ما يرفضه عليّة لا لشيء سوى أنه «لا يتطابق مع القوانين في غياب أي قرار قضائي. وبالتالي من غير الجائز إقصاء شركات لبنانية من دون أي مسوغ قانوني، ما يحدّ من المنافسة». ويضيف عليّة: «كإدارة مناقصات، أنا مؤتمن على حماية المنافسة، ما يعني حماية المناقصة من الطعن وتأمين ضمانة مشاركة لكل الشركات. أما في حال وجود هواجس لدى البعض، فأنا على استعداد لإدخال نصوص في العقد لتبديد الهواجس».
من جهة أخرى، تسعى «الطاقة» الى حصر العقد بالشركات العالمية عبر اشتراط عدم تسجيل الشركة المتقدمة في السجل التجاري اللبناني لتستبعد أي احتمال للغش،. رغم أن الشركتين المتورطتين في قضية الفيول المغشوش كانتا مسجلتين في الخارج، لا في لبنان. وبالتالي يمكن إعادة السيناريو نفسه بكل سهولة. لذلك، من مصلحة وزارة الطاقة الوصول الى حلّ واضح ومعتدل بينها وبين إدارة المناقصات لإبعاد العتمة، وطيّ صفحة «سوناطراك» نهائياً. فقرار مجلس الوزراء لم يستثن الشركات اللبنانية ولم يوص باستبعاد خيار إقامة تحالف شركات joint venture بين شركة أجنبية وأخرى لبنانية، وهو ما يؤكده عليّة، وما تحاول وزارة الطاقة الابتعاد عنه. «ما المشكلة في تحالف الشركات؟»، يسأل عليّة، «اذا كانت المنافسة مضمونة وبإمكاننا ملاحقة كل شركة وتأمين حقوقنا عبر دفتر شروط مُبكّل». وأكد أنه «إذا كانت النيات صافية فسأخرج من الاجتماع مع الوزير غجر الى مكتبي مباشرة لأعلن إطلاق المناقصة». وإلا يبقى خيار اعتماد وزارة الطاقة المناقصة في مديرية النفط وفق رأي من هيئة التشريع والاستشارات من دون المرور بإدارة المناقصات. عندها «ليتحمّلوا مسؤولية هذا الأمر». وهذا الخيار أكده رئيس إدارة المناقصات مساء بعد لمسه «حملة ممنهجة من التيار للتهويل» عليه في مواقع التواصل الاجتماعي، عبر اتهامه بإدخال شركات وسيطة ووكلاء محليين. وبحسب عليّة، فإن اجتماع اليوم سيكون لإبلاغ غجر «بضرورة سحب رأي هيئة التشريع والاستشارات والكتب المهددة باندلاع بركان وتظاهرات في حال عدم الموافقة على المناقصة، وإلا فليأتوا بقرار استثنائي لإبعاد الشركات اللبنانية، وأنا مستعد لإجراء المناقصة على مسؤوليتهم».