عندما يتعلّق الأمر بالدولة اللبنانية، ثمة قواعد تختلف عن أي مكان آخر في العالم. ينسحب ذلك على كل التفاصيل، إن كان إدارة المؤسسات العامة أو الإدارات أو المصرف المركزي أو كل مفصل من مفاصل الدولة. قياساً على ما سبق، يصبح بديهياً، بعد مضيّ 10 أشهر على تاريخ 4 آب 2020، أن يبقى المرفأ على ما كان عليه في اللحظة التي تلت انفجار نيترات الأمونيوم. يحدث ذلك فقط في لبنان. الأسوأ مما سبق، هو أن الدولة اللبنانية لا تملك أي رقم، ولو تقريبي، لقيمة الأضرار التي لحقت بالمرفأ وتكلفة إعادة إعمار الجزء المُدمّر منه. ولغاية اليوم، أي بعد 10 أشهر، لم تتكبّد أجهزة الدولة ومؤسساتها، من إدارة المرفأ الى وزارة الأشغال الى الجيش اللبناني، عناء إحصاء هذه التكلفة. وهو ما يقود الى الخروج بخلاصة تقول إن هناك من لا يريد للمرفأ ومحيطه أن يعود الى ما كان عليه قبل 4 آب 2020.
تلك استراتيجية اعتمدتها الدولة في اليوم التالي للانفجار، بحيث لا تقديرات جدّية لتكلفة إعادة إعمار المناطق التي تدمّرت. لا يتعلق الأمر بأسباب تقنية أو نقص في الطاقات البشرية، بل بتعمّد إبقاء العاصمة بمرفئها وشوارعها تحت الدمار، لسببين: الأول والأهمّ، التمهيد لخصخصة المرفأ وبيعه بحجة عدم توفر الموارد المالية والأولية اللازمة لإعماره، واستخدام صورة المناطق المدمرة والمهجرة أهاليها للاستغلال السياسي والمادي والانتخابي. والثاني، ضمان استقطاب عروض أجنبية وقروض مالية تسمح بإعادة تنظيم مخططات احتيالية جديدة وترتيب ديون إضافية.
عند سؤال وزير الأشغال العامة والنقل ميشال نجار عما يحول دون رفع الردميات والحديد، جاء الجواب أن شركة فرنسية متخصصة بمعالجة كل أنواع الركام «تبرعت» بالقيام بدراسة حول الردم الموجود وكيفية معالجته ليصار بعدها الى طرح مناقصة!
وبسؤال نجار عن سبب عدم مسح أضرار المرفأ أو تقدير الخسائر لإعادته كما كان عليه، أجاب: «ببساطة لأن المرفأ لا يفترض أن يُبنى بالطريقة التي كان عليها، بل يجب وضع مخطط توجيهي جديد له. هناك مشروع قامت به شركة «خطيب وعلمي» موجود في الأمانة العامة لمجلس الوزراء، وهناك شركات عدة أعدّت مخططات توجيهية، إلا أنه لا صلاحيات لحكومة تصريف الأعمال للقيام بالدور المطلوب، وبالتالي هذه المهمة ستكون بعهدة الحكومة المقبلة لأنها تحتاج الى اجتماع لمجلس الوزراء». على نسق الوزارة، لا مسح أيضاً في إدارة المرفأ. الاتصال بالمدير العام لإدارة واستثمار مرفأ بيروت باسم القيسي لا يفضي الى أي إجابة. وتقول المعلومات إن مدة خدمته انتهت قبل أيام، ورفض التجديد له، ويفترض إزاء ذلك تعيين مدير جديد. من جانبها، تقول مصادر الجيش اللبناني إن مسح الأضرار والبنى التحتية لا يدخل ضمن اختصاص الجيش، فيما الهيئة العليا للإغاثة غائبة عن السمع.
بتاريخ 11/8/2020 توقع مصرف «غولدمان ساكس» أن تكلف عملية إعادة إعمار المرفأ وحده، بين 3 مليارات و5 مليارات دولار، «وهو ما يفوق القدرة المالية للبنان الذي أعلن في آذار تخلفه عن سداد سندات اليوروبوند». وقال المصرف الأميركي، في تقرير، إن عمليات التصدير والاستيراد ستتم في الوقت الراهن عبر مرفأ طرابلس، الذي كان يعمل بقدرة 40 في المئة قبل الانفجار. تقديرات المصرف المبالغ فيها، دخلت آنذاك ضمن مساعي منع إعادة الإعمار عبر تضخيم القيمة الفعلية للأضرار اللاحقة بالمرفأ، فيما محطة الحاويات، التي يمرّ بها أكثر من 85 في المئة من حركة مرفأ بيروت، والتي تحوي أثمن ما في المرفأ (الرافعات الضخمة التي تنقل المستوعبات من السفن وإليها)، لم تتعرض لأي دمار، وعادت إلى العمل بعد أيام من الانفجار. وبالتالي، استمرت عمليات الاستيراد والتصدير.
بتاريخ 1/12/2020، عقد اجتماع بين رئيس الجمهورية ميشال عون وكل من سفير الاتحاد الأوروبي في لبنان رالف طراف ونائبة المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان نجاة رشدي والمدير الإقليمي لدائرة المشرق في البنك الدولي ساروج كومار. كان الهدف من الاجتماع إطلاع المسؤولين الدوليين عون على خطة عمل لإعادة إعمار الأضرار الناجمة عن انفجار مرفأ بيروت التي تأتي تحت عنوان «إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار للبنان». وأشار البيان الصادر عن قصر بعبدا حينذاك الى أن الخطة أعدّتها جهات ثلاث: البنك الدولي، الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. وقدرت إعادة إعمار مرفأ بيروت ومحيطه والمواقع الأثرية والتراثية، كما تقديم دعم لـ 5 آلاف مؤسسة صغيرة، بـ 2.5 مليار دولار. وهو ما يتناقض مع أرقام تقرير المصرف الأميركي حول المرفأ وحده. تلك الأرقام الخيالية التي يطرحها «المجتمع الدولي» وتتبناها جهات محلية وتقوم بتسويقها، لها هدف واحد وفق مصادر حكومية، وهو منع إعادة إعمار مرفأ بيروت وضواحيه وربط الإعمار بقرار سياسي مفتاحه لدى الدول الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية. فيما يقتصر الدور اللبناني على الخضوع لتلك المعادلة وإشهار الإفلاس لتشريع خصخصة المرفأ وبيعه، من منطلق أن لا قدرة للدولة اللبنانية على القيام مجدداً من دون تدخل دولي.
في الدولة اللبنانية، ثمة من يتواطأ لتحقيق هذه الغاية والإبقاء على المرفأ وجواره رهناً برضى واشنطن وما يُسمى «المجتمع الدولي». يجري ذلك كله لاستجداء دولارات من الخارج ولعقد صفقات مربحة فوق الردم، وحتى يُعاد تكليف الخارج برسم مستقبل لبنان وتقرير مصيره بالشكل الذي يراه مناسباً. هذا المخطط بدأ قبيل 4 آب 2020. ما حصل بعده هو أن الانفجار عبّد الطريق نحو الهاوية، بسهولة غير مسبوقة.