شهد الوضع المالي والاقتصادي قبل أيام، مأزقاً مفاجئاً خطيراً. وبينما كانت الأنظار مشدودة الى الحكومة لمعرفة الخطوات التي قد تقررها للإنقاذ، جاءت الصفعة من مكان آخر، غير متوقّع.
في التحليل، يمكن قول الكثير عن الحملة التي شنّها وزير الاقتصاد والتجارة منصور بطيش على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وفي لائحة السيناريوهات المتداوَلة، طُرحت نظريات متعددة ومتشعّبة حول الخلفيات والأهداف، نورد منها ما يلي:
اولاً- يتعلق الأمر بتصفية حساب شخصي، اذ ليس سراً انّ منصور بطيش كان طامحاً الى منصب الحاكمية، قبل أن تُحسم مسألة التجديد لسلامة لولاية جديدة.
ثانياً- جاء موقف بطيش كـ«رسالة تمهيدية» من قبل الفريق السياسي الذي ينتمي اليه، تحضيراً لكبش فداء، تحسّباً لكارثة مالية واقتصادية مقبلة، وتحميل المسؤولية لحاكمية مصرف لبنان، بهدف تبرئة السلطة السياسية.
ثالثاً- الهجوم هو نتيجة إفرازات الصراعات الداخلية في التيار السياسي الذي يمثله بطيش. وبالتالي، هناك مَن غمز وحرّض وزير الاقتصاد لاتخاذ هذا الموقف، والهدف اصابة مواضع أخرى، اي التصويب على سلامة في حين انّ المستهدَف هو فريق مُحدّد داخل التيار السياسي للعهد.
رابعاً- ربط ما قيل بزيارة وزير الخارجية الاميركي مايك بومبيو والمواقف المتصلبة التي اتّخذها حيال «حزب الله» وايران. إذ برأي البعض انّ سلامة القريب في نهجه واسلوب عمله من الغرب، مطلوب الضغط عليه لإيصال رسالة الى الأميركيين والمجتمع الدولي.
خامساً- هناك نظرية اخرى تقول إن بطيش تلقّى اشارة بزكزكة سلامة، لكن الأمر التبس عليه وظنّ أن المطلوب شن هجوم لاذع على حاكمية مصرف لبنان.
وهناك رأي آخر ضمن النظرية نفسها، يعتبر انّ بطيش تعمّد اساءة فهم المطلوب، لأنه في قراراة نفسه راغب في محاولة تشويه صورة حاكم مصرف لبنان.
هذا غيض من فيض النظريات والتحليلات في شأن خلفيات الخطوة المفاجئة التي أقدم عليها وزير الاقتصاد. وقد تضاربت الآراء في ترجيح كفة النظرية الأدق والاقرب الى الواقع.
لكن، وبصرف النظر عن معرفة أسباب وأهداف موقف بطيش المفاجئ، تبقى النتائج هي المعيار الذي يمكن اعتماده للحكم على ما حصل. اذ كيف يمكن تبرير أيّ كلام قد يؤدي الى تسريع الانهيار، والى خراب البصرة؟ وهل أصبح مصير الناس موضع استخفاف الى هذا الحد، لكي يتمّ التلاعب بهذا المصير بهذا الشكل المُسطّح؟
لو أنّ الكلام الذي قيل صدر عن أيّ وزير آخر في الحكومة، (باستثناء وزيرين أو ثلاثة) لأمكن التبرير بأنّ مَن يتحدث يجهل خطورة ما يقول، ومثل هذه الهفوة سبق وحصلت. لكن أن يصدر عن وزير يُفترض انه يعرف تماماً الى أين يقود مثل هذا الكلام، في وضع مثل وضع لبنان، فهذه ليست مجرد هفوة ناتجة عن قلة دراية. منصور بطيش مصرفي مخضرم، وهو يدرك تماماً نقطتين على الأقل في هذا الموضوع:
اولا- مهما كانت الاسباب التي قد تدفع الى مثل هذا الكلام، فإنها لا يمكن ان تكون أهم من مصير البلد والناس. ورجل مثل بطيش كان يعرف مسبقاً ان كلامه سيضرّ بالوضع المالي والاقتصادي الهش، على طريقة «ما تهزّو واقف على شوار». وهو يدرك طبعاً انه لا يمكنه تقليد الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يهاجم رئيس الفدرالي الأميركي جيروم باول، في كل مناسبة. لا لبنان أميركا، ولا بطيش ترامب.
وبالمناسبة، ورغم الفارق غير القابل للمقارنة بين الوضعين، من المفيد أن نشير الى أنه عندما يتم سرد نقاط القوة والضعف في الاقتصاد الأميركي حالياً، ترِد مسألة تهجُّم ترامب على باول ضمن لائحة نقاط الضعف التي تؤثّر سلباً على الاقتصاد الأميركي.
ثانياً- إنّ تحميل حاكمية مصرف لبنان مسألة ارتفاع أسعار الفوائد لا تليق بمصرفي مخضرم يعرف كيف ترتفع اسعار الفوائد ولماذا. ويعرف الهامش الاقصى الذي يمكن التحرّك ضمنه في زيادة أو خفض أسعار الفوائد 100 أو 200 نقطة.
هذه الحقائق تقود الى ترجيح كفة الرواية التي نقلها شخص من «أهل البيت» السياسي الذي ينتمي اليه بطيش. اذ قال الرجل، إنّ هناك مَن غمز وزير الاقتصاد بهدف تصفية حسابات لها علاقة بالخلافات والتنافس داخل هذا الفريق، وقد استفاض بطيش في تلبية هذه الرغبة بسبب موقفه الشخصي.
وهكذا تحوّل الأمر من زكزكة داخلية في التيار، الى أزمة وطنية أصابت الناس بالذعر، وخفّضت منسوب الثقة اكثر ممّا هو منخفض. والأكيد أنها أصابت بسهامها العهد بالتحديد، لأنّ العهد تبنّى سياسات سلامة النقدية وآمن بجدواها وفعاليتها، وعلى هذا الأساس، مدّد ولايته لست سنوات في أيار من العام 2017.