الصفقة المبرمة مع الجانب العراقي حديثاً تضمن حصول لبنان على مليون طن من “الفيول أويل” الذي تحرقه المعامل، عبر مناقصات “سبوت كارغو”. الشركات الفائزة بالمناقصة تقبض الثمن بالفيول الأسود الثقيل من العراق. وفي النهاية، يدفع لبنان للعراق الثمن داخل حدوده بالليرة. وللأخير، ملء الحرية بشراء كل ما يحتاجه من سلع وخدمات واستشارات من لبنان. هذا من الناحية النظرية، إنما فعلياً فان عمر الصفقة الإفتراضي هو 4 أشهر على أبعد تقدير وليس سنة. فالمعامل تستهلك سنوياً 3 ملايين طن، ما يعني أن الكمية تكفي لثلث عام فقط.
المشكلة الأولى بهذه الصفقة أنها قد لا تؤمن الكهرباء لمدة 10 ساعات يومياً كما يشتهي البعض، فـ”بناء على تجربتنا في مجلس إدارة الكهرباء قد يجري ترشيد الإستهلاك لإطالة المدة الزمنية لأطول فترة ممكنة. خصوصاً إن لم يكن هناك من حلول تلوح في الافق”، يقول عضو مجلس ادارة كهرباء لبنان المهندس طارق عبدالله، و”عليه من الممكن ألا تزيد ساعات التغذية من كهرباء لبنان عن 4 أو 5 ساعات يومياً في الفترة المقبلة، بهدف استعمال المليون طن لثمانية أشهر بدلاً من أربعة”.
هذا الإفتراض المبني على وقائع ملموسة يعني استمرار ارتفاع الطلب على المازوت لتشغيل المولدات الخاصة. حيث أن الأخيرة (يقدّر عددها بنحو 7 آلاف مولّد على صعيد لبنان) تستهلك كل ساعة حوالى 500 ألف ليتر من المازوت. أي أن تغطية بين 16 و18 ساعة من انقطاع الكهرباء تتطلب بين 8 و9 ملايين ليتر يومياً من المازوت. ومع نفاد الدولارات والتقطير في فتح الإعتمادت فان مشكلة الكهرباء لن تحل حتى ولو جزئياً. وإذا افترضنا رفع الدعم عن المازوت بعد شهرين كما قضى الإتفاق عند ترشيد الدعم وتخفيضه إلى 3900 ليرة، فان الكلفة المرتفعة ستحرم الكثير من العائلات من تأمين الكهرباء من المولدات الخاصة.
في المبدأ تقدّر قيمة الصفقة بحوالى نصف مليار دولار. فطن الفيول يساوي 7 ملايين برميل، تبلغ قيمتها بحسب سعر اليوم (72 دولاراً للبرميل) حوالى 504 ملايين دولار. وهنا يبرز السؤال على أي سعر صرف سيسدد لبنان ثمن البضاعة. فكل ما علم لغاية الآن من خلال تصريح وزير الطاقة ريمون غجر فور عودته من العراق، أن “الدولة العراقية قبلت بفتح حساب بمصرف لبنان تشتري من خلاله سلعاً وخدمات داخل لبنان ولا تصدر دولاراً واحداً إلى الخارج. يعني الخدمات تدفع بالليرة اللبنانية حسب السعر بلبنان. لذلك لن نمس بالاحتياطي الإلزامي”. التأكد من أن السعر المعتمد لن يكون على أساس سعر صرف 1515 ليرة، يترك أمامنا ثلاثة خيارات، وهي: 3900 ليرة، سعر السوق الموازي، أو سعر ثالث جرى الإتفاق عليه. المنطق يفترض أيضاً، شطب سعر السوق، أولاً لانه مرتفع جداً، وثانياً لانه غير مستقر. وبذلك لا يبقى إلا سعر 3900 ليرة، أو اي سعر آخر أعلى متفق عليه قادر على تسديد ثمن الخدمات، وتحديداً الطبية منها في المستشفيات اللبنانية التي يحتاجها العراقيون بشكل كبير. إلا أنه في جميع الحالات فان الدفع على أساس سعر 3900 ليرة بالحد الأدنى يفترض وضع مبلغ لا يقل عن ألفي مليار ليرة في الحساب. ما يعني بحسب عبدالله “طباعة المزيد من النقود وتحمّل أعباء تضخمية إضافية والمزيد من الإنهيار في سعر الصرف”.
كل ما نفعله منذ العام 2019 ولغاية اليوم هو “حقن” المؤسسات بـ”المورفين” بانتظار حكومة جديدة تتفق على برنامج إنقاذي مع صندوق النقد الدولي. لذا “فان كل ما يجري على صعيد مؤسسات الدولة عامة والكهرباء خاصة هو ترقيع”، من وجهة نظر عبدالله، “ذلك أن أفضل خطة للكهرباء نضعها اليوم موضع التنفيذ تتطلب عامين على أقل تقدير لتبدأ باعطاء النتائج المرجوة. وعليه هناك عامان بالغا الصعوبة على البلد ونحن مضطرون لتقطيعهما بالشحاذة حيناً، و”بمد اليد” على ما تبقى من أموال المودعين احياناً كثيرة، وصرف نحو 3 مليارات دولار إضافية. وقبل ذلك لا حل لتأمين الكهرباء بشكل مستقر. حيث أن المعامل اللبنانية من دون بواخر الطاقة المغادرة بأيلول لا تقدر على إنتاج أكثر من 1600 ميغاواط”، في حين أن الحاجة الفعلية تتجاوز 3200 ميغاواط. خصوصاً في فصل الصيف.
يبقى أمران جوهريان هما الأساس، من وجهة نظر عبدالله، للتخفيف من حدة الأزمة: تخفيض الهدر، والذي من المتوقع أن يكون قد ارتفع أكثر بكثير بعد العام 2019 وتجاوز 45 في المئة، وهذا لا يتم إلا من خلال اتخاذ القرارات وتطبيقها وازالة التعديات وتفعيل الجباية. والثاني تشكيل حكومة مهمة بصلاحيات استثنائية تتفق على برنامج إصلاحات حقيقي مع المؤسسات الدولية وصندوق النقد الدولي، وتواكب تشريعياً من قبل مجلس النواب لوقف الانهيار. وأي كلام آخر هو تضييع للوقت وامتصاص للمزيد من الطاقات والامكانيات.