أكّد مؤتمر “بيروت وان” في دورته الأخيرة حقيقةً لا يمكن تجاهلها: “إن الثروة الاستراتيجية الكبرى للبنان اليوم لا تكمن في موارده الطبيعية ولا في قطاعاته التقليدية، بل في اغترابه المنتشر في مختلف أصقاع العالم”.
رغم الثقل الاقتصادي الهائل للجالية اللبنانيّة في الخارج ونجاحها الباهر وولائها العميق لوطنها الأم، لا يزال صُناع القرار في لبنان يصرّون على حرمان المغتربين من أبسط حقوقهم الديمقراطية… “الحق في التصويت بسهولة وأمان من أماكن إقامتهم في الاستحقاقات النيابيّة المقبلة”. وبدلًا من العمل على إزالة العقبات أمام مشاركتهم السياسية، تمضي شريحة واسعة من الطبقة السياسية في عرقلة هذا الحق الدستوري، في نهج يهدّد الديمقراطية ويُعمّق الفجوة بين الدولة وأبنائها الأكثر نجاحًا والتزامًا.
يأتي هذا التعطيل ضمن سلسلة طويلة من التقاعس والإهمال، حيث فشلت الحكومات المتعاقبة في استثمار القيمة الاستراتيجية للاغتراب اللبناني. وقد تناولتُ هذا الموضوع سابقًا في مقال نُشر في صحيفة “نداء الوطن” بعنوان “الفرصة الذهبية للبنان… مبادرة من ستة بنود”، الذي قدّم خارطة طريق عملية لجذب استثمارات المغتربين عبر هيكلية شفافة وحوافز اقتصاديّة وإصلاحات جذريّة في الحوكمة. شهادات المشاركين في مؤتمر “بيروت وان” جاءت لتؤكد ضرورة تطبيق هذه الرؤية دون تأخير. (https://shorturl.at/kVepS).
إن قوّة الاغتراب اللبناني تتجاوز المفهوم الاقتصادي التقليدي. فعدد اللبنانيين المنتشرين حول العالم يُقدّر بين 8 و 15 مليون نسمة، مقابل نحو 5.5 ملايين مقيمين داخل لبنان، ويتوزع هؤلاء على دول الخليج وغرب أفريقيا وأوروبا والأميركيتين وأستراليا. ويتميّز اللبنانيون في الخارج بمستوى تعليميّ رفيع، وروح رياديّة خلاقة، وقدرة تنافسية عالية في الأسواق العالمية.
حقق اللبنانيون إنجازات لافتة في مجالات المال والطب والهندسة والقانون والموضة وإدارة الضيافة …، فيما وصل عدد كبير منهم إلى مواقع قياديّة في مدن كبرى مثل نيويورك ولندن ودبي. أما في غرب أفريقيا، فيُسجَّل لهم حضور اقتصادي قوي يساهم بما يصل إلى 12 % من اقتصادات بعض الدول.
على الصعيد المالي، يضخ الاغتراب نحو 7 مليارات دولار سنويًا كتحويلات رسمية إلى لبنان، تمثل بين 20 إلى 30 % من الناتج المحلي الإجمالي. وتشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن المغترب يرسل في العادة نحو 15 % من دخله إلى وطنه، ما يسمح بتقدير الدخل الإجمالي للاغتراب بنحو 47 مليار دولار سنويًا. ومع إضافة نسبة 30 % للتحويلات غير المسجّلة، يصل الرقم إلى أكثر من 60 مليار دولار، وبمتوسط مُتحفظ يُقدّر بـ 54 مليار دولار، وهذا يبيّن أن الاغتراب اللبناني ينتج ما يقارب ضعف الناتج المحلي للداخل.
أما الثروة المتراكمة، فغالبيتها ضمن دول مرتفعة الدخل ولدى شرائح مهنية ورياديّة متقدّمة. وباحتساب متوسط ثروة يتراوح بين 200 و 250 ألف دولار لنحو مليوني لبناني مرتبطين مباشرة بالوطن، تُقدّر الثروة الممكن تعبئتها بما بين 400 و 500 مليار دولار، وهي أرقام تتطابق مع تقديرات دوليّة أخرى تصل إلى حدود 600 مليار دولار.
ولو خصّصت الجالية اللبنانية 5 % فقط من ثروتها للاستثمار في لبنان خلال عشر سنوات، مع ضرورة توافر الأمن والحوكمة، لتدفق مبلغ ما يقارب 25 مليار دولار، أي 2.5 مليار دولار سنويًا، تُوجَّه بالكامل نحو الاستثمار المنتج لا نحو الاستهلاك.
وعلى الرغم من قسوة الانهيار الاقتصادي الحالي، يمكن الانتقال من الإغاثة إلى الاستثمار، وهذا يشكّل فرصة تاريخيّة لإعادة بناء الاقتصاد بالشراكة الكاملة مع الاغتراب اللبناني. فهذه القوّة قادرة على تحريك الاستثمارات، وتنشيط السياحة، وتعزيز الطلب على العقارات، ودعم قطاع التكنولوجيا والشركات الناشئة، والمساهمة في إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وخلق فرص عمل واسعة. لكن تحقيق هذه الإمكانات رهنٌ باستعادة الثقة وتطبيق الإصلاح وتوفير بيئة مستقرة.
ولجذب استثمارات المغتربين، يحتاج لبنان بشكل عاجل إلى مؤسّسات شفافة، ونظام ضريبيّ واضح وغير معقد، وبرامج معاصرة للإقامة والاستثمار، واستراتيجيّة وطنيّة شاملة للاغتراب، إلى جانب إصلاح قضائي ومصرفي عميق، وضمان الأمن الشخصي والاقتصادي للمستثمر.
أمّا سياسيًا، فالخطوة الأكثر إلحاحًا تبقى في تمكين اللبنانيين في الخارج من ممارسة حقهم في التصويت بحريّة وسهولة من بلدان إقامتهم.
وعليه، ينبغي للبنان الانتقال بجديّة من نموذج قائم على التحويلات النقديّة إلى نموذج اقتصاديّ يرتكز على الاستثمارات المنتجة. فخطّة وطنيّة تمتدّ عشر سنوات، تشمل حوافز ضريبيّة مغرية، وتسهيلات للإقامات الاستثمارية، وإنشاء مناطق اقتصاديّة خاصة، وتطوير حكومة رقميّة شاملة، وإصلاحًا مصرفيًّا موثوقًا، وقيادة سياسية تتمتع بالمصداقية، يمكن أن تجذب ما بين مليار و 5 مليارات دولار سنويًا من رؤوس أموال المغتربين.
ختامًا، سيستجيب الاغتراب اللبناني فورًا إذا ما عاملته الدولة كـ “شريك استراتيجي فاعل”، بدلًا من النظر إليه كـ “مصدر للتحويلات”. فالمطلوب هو الشفافيّة والاحترام المتبادل ووضوح القواعد. لقد كان المغتربون دائمًا سندًا للبنان، وسيبقون كذلك، وما يحتاجه لبنان اليوم هو قيادة حكيمة وشجاعة ترتقي إلى مستوى هذه الجالية العالمية الناجحة.



