في خضمّ المعمعة التي خلقها عقد “سوناطراك” وشوائبه وشبهات بنوده وعدم شرعيّته، تضيع بين السطور قضية أخطر، هي المؤلفة من سبعة أحرف لا غير: “Rosneft”. ولمن لا يتذكر، ففي 25 كانون الاول 2019، تمّ توقيع العقد الشهير بين وزير الطاقة الاسبق سيزار أبي خليل وشركة “روسنفت” الروسية وذلك في حكومة تصريف أعمال.
آنذاك، استباح أبي خليل “ربما” عن غير قصد، أرضاً مملوكة من شركة النفط العراقية واستغلّ غيابها ليبرم عقوداً سرّيّة تخفي في طياتها نوايا دفينة. وللمناسبة، لا تزال أراضي منشآت النفط في طرابلس والزهراني حتى اللحظة مملوكة من قبل شركة النفط العراقية. ومع ذلك، قامت الدولة بتأجيرها بعدما وضعت يدها عليها، من دون تنفيذ الاستملاكات اللازمة حسب الأصول المتبعة في حالات كهذه. ذلك يعني أنه ورغم قرار وزارة المالية بشطب السجلات المتعلقة بالشركة النفطية العراقية( Iraq Petroleum Company) فإنّ المنشآت تابعة للشركة العراقية لتاريخ ابرام صفقة “روسنفت” وحتى يومنا هذا. كلّ ذلك، في ظلّ غياب تام لموازنات وأرقام هذا المرفق الذي يلعب بملايين الدولارات يومياً من دون أدنى معايير الرقابة والشفافية. وهنا، يُطرح سؤال بديهي حول شرعيّة العقود، كلّ العقود التي تبرمها ادارة المنشآت باسم وزارة الطاقة وحول عائداتها وما اذا كانت “قانوناً” من حقّ الدولة اللبنانية او الشركة النفطية العراقية(IPC).
عقد “Rosneft” السرّيّ
نصّ العقد الموقّع بين ” Rosneft ” و “Lebanon Oil Installations” على منح استثمار الاراضي التابعة للمنشآت على الأراضي اللبنانية كافة لمدة 20 عاماً وذلك لتطويرها وإصلاحها وجعلها أكبر مستودع لتخزين المشتقات النفطية بمختلف أنواعها على البحر المتوسط. في هذا السياق، كثيرة هي علامات الاستفهام التي تحيط بصفقة بهذا الحجم وبهذا الغموض وأيضاً بهوية المستفيدين منها.
هُرّب عقد ” Rosneft” من أمام أعين مجلس النواب. الهدف من ذلك كان منع وصول الايرادات المحصلة من هذه العقود الى خزينة الدولة، فالايرادات المتأتّية من تجارة المحروقات، كلها تتم وفق نظام تقاسم الأرباح وتوزيع الحصص في كواليس المنشآت ومن يحميها فيما لا يزال عقد ” Rosneft ” المحاط بسرية غير مسبوقة محطّ أنظار اللبنانيين عموماً والمعنيين في الشأن النفطي خصوصاً. وما يزيد من أهمّيّته هو هوية الراعي الرسمي لهذا العقد، أي رئيس لجنة ادارة منشآت النفط في طرابلس والزهراني سركيس حليس”المتواري عن الانظار” كونه تبوّأ يمين الوزير أبي خليل أثناء عملية التوقيع.
وفي التفاصيل، وقّع العقد عن الجانب الروسي رئيس الشركة الروسية ديديي كازيميرو Didier Casimiro. الا ان المفارقة تكمن بحسب مصادر قبرصيّة مطّلعة على العقد، في تساوي توقيع حليس الى جانب الوزير الوصيّ. والمريب في الموضوع، يتمثّل في توقيع كازيميرو العقد ليس نيابة عن “روسنفت” المملوكة من الدولة الروسية ولكن عن شركة “GPOB LIMITED” المسجلة في جمهورية قبرص. صحيحٌ أنّ عقود النفط في عالم التجارة والاعمال تتيح لشركة ان توقع عقداً بالانابة عن شركة أخرى، لكن ليس عندما يكون الموقِّع مدرجاً على اللائحة السوداء لمكتب مراقبة الأصول الأجنبية، كما انه لا يكون لمدة 20 عاماً مع شركة Offshore، على الاقلّ تحاشياً للتحايل على وزارة الخزانة الاميركية ومقرراتها.
…على اللائحة السوداء
في 18 شباط 2020 ، أدرج الموقع الرسمي لوزارة الخزانة الأميركية(U.S. Department of the Treasury ) – مكتب مراقبة الأصول الأجنبية( OFAC) ” Rosneft Trading SA “، وهي شركة وساطة النفط الروسية التابعة لـRosneft (التي تملكها الدولة الروسية) ورئيس مجلس ادارة الشركة ديديي كازيميرو على اللائحة السوداء ليصبحا خاضعَين للعقوبات الاميركية التي تشمل كل من يتعامل مع الشركة او مع ممثلين عنها بطرق مباشرة و/أو غير مباشرة. باختصار، يمكن أن يخضع للعقوبات الاميركية ،إذا قرر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية، كلّ من تربطه علاقة بالشركة أو برئيسها.
تتبع ” Rosneft Trading SA ” الشركة الام ” Rosneft Oil Company ” وتساعدها في تنفيذ مشاريع خارجية كالتسويق والتوزيع، بما في ذلك تجارة المواد الخام ومعالجتها ونقلها ، ولا سيما المنتجات البترولية والمنتجات النفطية غير المكررة من مصادر “غير تقليدية” تحديداً من الدول الخاضعة للعقوبات الاميركية مثل إيران وفنزويلا بالاضافة الى ليبيا وعدد من الدول الافريقية وذلك من خلال اخفاء المصدر الحقيقي للمواد النفطية. ففنزويلا على سبيل المثال كانت تصدر حوالى 70% من انتاجها عبر” Rosneft Trading SA ” الى الاسواق الصينية والكوبية والفيتنامية وربما أيضاً اللبنانية…
لا تنتهي قصة “العصيان” عند هذا الحدّ، حيث تضاف مخالفة أخرى تشوب العقد وهي المتمثلة بتسمية “Lebanon Oil Installations” وهو اسم وهمي غير موجود أصلاً في السجلات اللبنانية اذ ان الاسم الحقيقي هو “لجنة منشآت النفط في طرابلس والزهراني” وهي مملوكة من الدولة اللبنانية وليس من رئيس لجنة الادارة سركيس حليس كما هو مذكور في العقد الذي يعتبر حليس “مالك” هذه المنشآت (owner) بحسب ما تؤكّد المصادر القبرصيّة عينها.
كل ذلك يعني أنّ الدولة قد أعطت موافقتها لتمرير صفقة “Rosneft” من دون الاطلاع على حيثياتها وتفاصيلها. فأين أصبح تنفيذ العقد اليوم؟ وماذا نُفّذ منه وقد مضى على توقيعه حوالى العام والنصف؟!
تشدّد أوساط متابعة على أن العقد لا يؤثر على تجارة المشتقات النفطية في السوق المحلية لكن يمكن لـ”روسنفت” ان تبيع مشتقاتها المخزّنة الى أي من الشركات اللبنانية التي تورد وتوزع المواد النفطية من دون أن تدخل الشركة الروسية في مضاربة في السوق المحلية، كما يمكنها تصدير هذه المخزونات الى الاسواق الخارجية، شمالاً وشرقاً أو بحراً. كل هذه المعطيات تطرح في الحقيقة تساؤلات عديدة ومتشعبة لا بل خطيرة والسبب في ذلك عائد الى قرب المنشآت من سوريا جغرافياً، ما يعني احتمالية اهتمام روسيا بالاستثمار في المنشآت لتخزين المواد النفطية المهرّبة من فنزويلا وايران قبل اعادة توزيعها في سوريا وغيرها من الدول، هذا ان لم تكن البضاعة المتوغلة في سوقنا أصلاً مهرّبة بما أن وزارة الطاقة لم تستلم يوماً من ادارة المنشآت مانيفست البواخر التي تنقل المواد النفطية (ship manifest).
شريك ” Rosneft “…محلّيّ؟
تفوح من الغموض الذي يُسيّج العقد رائحة المصالح السياسية-التجارية الداخلية من جهة، ومن جهة ثانية التواطؤ في لعبة أممية تفوق حجم لبنان وإمكانياته. لكن وبعيداً من الغوص في تحاليل استراتيجية-مالية، يؤكّد مصدر متابع لهذا الملف وجود شريك محلّيّ لـ”Rosneft”الروسية أو “GPOB LIMITED”القبرصية (المؤسسة عام 2012) أو أياً كانت الجهة الموقِّعة للعقد. وفي هذا الحالة، فإنّ شريك “روسنفت” المحليّ متمرّس بالتجارة النفطية في المنطقة، وله امتدادات استراتيجية في اسواق كثيرة، وهو ما يدلّ عليه تواجد هذا الشريك في جمهورية قبرص وهي جنّة ضريبية، ما يجعلها ملتقى لا بل قاعدة للغالبية الساحقة من شركات الاوف شور خصوصاً التي تتعاطى التجارة النفطية. ترفع هذه المعطيات احتمال أن تكون المواد النفطية المستوردة الى لبنان من مصادر مشبوهة، ما قد يفسّر المنحى الذي كانت تتّخذه الاسعار المقدّمة في المناقصات لصالح منشآت النفط وإدارتها. الا أنه لا يمكن تأكيد كلّ ذلك “بالأدلّة” والبراهين إلا في حال قررت وزارة الطاقة نشر العقد مع “روسنفت” كاملاً وشرح تفاصيله ومعه الكشف عن مصادر توريد النفط من خلال مانيفست البواخر التي تنقل المواد النفطية الى الداخل اللبناني.