التغنّي بحمْل لبنان لديونه السيادية كواحدة من مصادر قوّته وتفرّده في العالم، أصبحت اليوم مهدّدة. وبغضّ النظر عن أن كل الديون المقوّمة بالدولار والتي تبلغ قيمتها 32.5 ملياراً، تُعتبر ديوناً خارجية كائناً من كان حاملها، فإن بعض الجهات اللبنانية الحاملة لديون بالدولار بدأت ببيعها إلى الخارج لأهداف لم تُعرف بعد.
قبل موعد استحقاق سندات “اليوروبوندز” في آذار المقبل، ومع بروز نية عند مصرف لبنان لإجراء “سوابات” مع المصارف التي تحمل النسبة الأكبر من هذه السندات، أي استبدالها بفائدة أعلى ولآجال أطول بهدف عدم استنفاد ما بقي من احتياطه من العملة الأجنبية، برز مؤشر خطير يتعلّق ببعض المصارف اللبنانية “التي تعمد إلى بيع ما تحمله من يوروبوندز إلى جهات خارجية بأسعار خيالية، أي أقل بكثير من قيمة السند الإسمية التي تبلغ 100 دولار”، يقول خبير الأسواق المالية دان قزي، وبرأيه فإن “هذه السياسة تُضعف الموقف اللبناني، وتهدف إلى واحد من أمرين: إما الهروب من أي سواب محتمل وإما الحصول على توفير السيولة”.
الديون الخارجية ترتفع
قبل نحو أربعة أشهر كانت قيمة سندات “اليوروبوندز” المحمولة من الخارج لاستحقاق 2020 تُقدّر بحوالى 783 مليون دولار من أصل 4.6 مليارات دولار، مجمل ما يجب على لبنان ان يدفعه بدلاً عن هذه السندات. وبالتالي فإن نسبة ما كان يحمله الاجانب من سندات أصبحت مرشحة للإرتفاع كل يوم بنسب اكبر من 17 في المئة، نتيجة عمليات البيع، وهو ما يضعف الموقف اللبناني ويضرب الخطة الاستراتيجية لسياسة المركزي، التي يحاول من خلالها تقليل الخسائر قدر المستطاع. فالدين الداخلي من الممكن جدولته أو إيجاد فتوى ما لعدم دفعه نقداً، فيما تخلّف الدولة عن دفع ديونها للخارج أو للأجانب يعّرض لبنان الى خطر دعاوى دولية، قد تكون نتائجها وضع اليد على أصول الدولة من ذهب وطائرات وغيرها من الامور من الممتلكات. وبرأي قزي، فإن “أقل ما يقال عن عمليات البيع إلى الخارج انها عديمة المسؤولية، وكان الأجدى بالمصارف بيع السندات بهذا السعر المتهاوي لمصرف لبنان، الذي يوفر من خلالها مبالغ كبيرة على الخزينة في أوقات دفع الاستحقاقات. لكن هذا لم يتم لاسباب ما زالت تفاصيلها غير معروفة”.
التشريعات النقدية ضرورية
مواجهة الأزمة النقدية، وما قد ينتج عنها من تبعات خطيرة وغير مسبوقة تتطلّب من هذه الحكومة وضع قانون لـ “الكابيتال كونترول”، والبدء في تنفيذه في مهلة أقصاها أسبوعين من الآن. فليس من العدل ان يقف صغار المودعين أو أصحاب الرواتب الموطنة ساعات لتقاضي 100 دولار من حسابهم، في حين تحظى الاقلية بسقوف مفتوحة. فبالاضافة الى تأمينه العدالة في توزيع الاموال، يلعب “الكابيتال كونترول” دوراً أساسياً في ملاحقة المخالفين ومقاضاتهم.
هذه الخطوة الأولى، أما الخطوة الثانية فهي تنفيذ “الهير كات” بما يتلاءم مع وضع لبنان وقيم الودائع الموجودة بالدولار في مصارفه. وبرأي قزي فإن “الهير كات يجب ان يكون على اساس مساواة قيمة الودائع الاسمية الموجودة في المصارف مع ما يوجد فعلياً من دولارات حقيقية. فالهوة الموجودة بين الدولار الوهمي “لولار” والدولار الحقيقي تقدر بحوالى 40 مليار دولار ( 70 مليار لولار – 30 مليار دولار احتياطي موجودة في مصرف لبنان). وعليه فإن المطلوب شطب 40 مليار دولار من الحسابات المصرفية من أجل تأمين السيولة وعودة العجلة الاقتصادية”.
من أين ستُشطب هذه الأموال؟
يعتبر قزي أن هناك 6000 مودع في المصارف اللبنانية كانوا يملكون حوالى 87 مليار دولار قبل أشهر، (أصبح الرقم اليوم مع خروج بعض الودائع حوالى 83 ملياراً). سيأكل “الهير كات” نسبة 50 في المئة منها. وفي ما إذا كانوا سيقبلون بهذا الإجراء، يرى قزي انه “لا يوجد امامهم أي خيار آخر. فالاموال لم تعد موجودة. وبالتالي إما ان يستمر الوضع على ما هو عليه لفترة مجهولة، لا يعرف خلالها ما قد يحصل من افلاسات ومشاكل، وإما عليهم أن يرضوا بهذا الواقع المفروض عليهم”.
البحث الأساسي يجب ان يتركّز على كيفية توزيع الخسائر. فإما أن توزع على 6000 من كبار المودعين، وإما ان توزع على كل المودعين الذين يبلغ عددهم حوالى مليون و600 ألف مودع، لكن في هذه الحالة لا تخف الخسائر على المودعين الكبار إلا بنسب زهيدة جداً لا تتجاوز 10 في المئة وتكون نتيجتها مزيداً من الإضطرابات التي لا تحمد عقباها في الشارع.
إستمرار الغموض والتهرب من قول الحقيقة للمودعين واللبنانيين من شأنه ان يزيد قلة الثقة ويعمّق حالة الهلع. فالوضع خطير ومصارحة المواطنين بأن أموالهم أو نصفها على الاقل لم تعد موجودة فعلياً أصبح ضرورة، لينصرف من بعدها المسؤولون الى لملمة الاقتصاد وبدء وضع خطط جدية تشجع الانتاج وتزيد التصدير، وتفرض ضرائب عادلة وتحرر سعر الصرف وتقلّل من فاتورة الإستيراد لتبدأ من بعدها مرحلة التعافي.