رغم جميع الضغوط النقديّة المحدودة التي رافقت التصعيد الميداني خلال الأسبوعين الماضيين، لا يبدو أنّ آثار الحرب قد ظهرت على ميزانيّة المصرف المركزي. بل على العكس تمامًا، إذ كما يُظهر بيان الوضع المالي للمصرف، لغاية آخر شهر أيلول الماضي، تمكّن مصرف لبنان خلال النصف الثاني من شهر أيلول من زيادة احتياطاته، وفق النمط نفسه الذي شهدناه منذ أكثر من سنة.
كما تمكّن المصرف في الوقت نفسه من ضبط حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة، وتقليصها، وهو ما سيزيد من قدرته على التحكّم بتوازنات سوق القطع، خلال فترة التصعيد الحالي. أمّا قيمة الذهب الموجود كاحتياطات بحوزة المصرف، فظلّت ترتفع على وقع القفزات التي شهدها سعر المعدن الأصفر في الأسواق العالميّة.
احتياطات العملات الأجنبيّة وحسابات القطاع العام
بحلول نهاية شهر أيلول، كانت احتياطات العملات الأجنبيّة الموجودة بحوزة مصرف لبنان قد ناهزت حدود 10.85 مليار دولار، مقارنة بنحو 10.79 مليار دولار في منتصف الشهر نفسه. وبهذا الشكل، يكون المصرف المركزي قد تمكّن من زيادة احتياطاته بأكثر من 59 مليون دولار خلال فترة الأسبوعين الماضيين. وبالمقارنة مع منتصف شهر شباط الماضي، تاريخ اعتماد سعر الصرف الواقعي لإعداد الميزانيّة، تكون الزيادة في احتياطات مصرف لبنان قد بلغت حدود 1.19 مليار دولار أميركي، فيما ترتفع هذه الزيادة إلى أكثر من 2.06 مليار دولار، بالمقارنة مع نهاية شهر تمّوز 2023، أي تاريخ انتهاء ولاية الحاكم السابق رياض سلامة.
مراجعة بند ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان، سُرعان ما تُظهر ارتفاع أموال الدولة اللبنانيّة المودعة هناك إلى أكثر من 5.97 مليار دولار أميركي، وهو ما يعكس ارتفاعًا قدره 197.68 مليون دولار خلال النصف الثاني من شهر أيلول وحده. وبذلك تكون أموال الدولة المتراكمة في هذا الحساب قد زادت بأكثر من 1.66 مليار دولار أميركي منذ منتصف شهر شباط الماضي.
وبهذا يمكن القول إن مصرف لبنان ما زال قادرًا حتّى اللحظة على الاستفادة من المعادلة ذاتها التي سمحت بزيادة احتياطاته خلال المرحلة الماضية: امتصاص الليرات من السوق عبر حاصلات الرسوم والضرائب، وبسياسة تقشّف صارمة تراكم أموال الدولة لديه، في مقابل شراء الدولارات من السوق ولجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة. وهذه المعادلة، لم تتأثّر حتّى الآن بالظروف العسكريّة التي تعصف بلبنان. وإذا كان الاستقرار النقدي هو الجانب الإيجابي في هذه المعادلة، فعجز الدولة عن التعامل مع حاجات النزوح الراهنة هو النتيجة السلبيّة، المترتّبة على السياسة التقشّفية القائمة.
الارتفاع في قيمة احتياطي الذهب
خلال الفترة نفسها، ارتفعت قيمة احتياطات الذهب الموجودة لدى مصرف لبنان إلى أكثر من 24.46 مليار دولار بحلول نهاية شهر أيلول الماضي، مقارنة بـ23.7 مليار دولار في منتصف الشهر، وهو ما يعكس مكاسب بقيمة 759.46 مليون دولار تحقّقت خلال الأسبوعين الماضيين. ومن المهم التنويه هنا إلى أنّ مصرف لبنان يقوم بمواءمة قيمة هذه الاحتياطات وفقًا لأسعار الذهب الرائجة في السوق العالميّة، ما يعني أنّ هذه الارتفاعات مرتبطة أساسًا بتغيّرات خارجيّة لا ترتبط بأي عمليّات داخل مصرف لبنان. ورغم عدم تأثّر سيولة المصرف المركزي بهذه التحوّلات، من الأكيد أن تغيّر قيمة احتياطات الذهب ينعكس تلقائيًا على ملاءة الميزانيّة، أي كفاية الموجودات وقيمتها قياسًا بالمطلوبات والإلتزامات المتنوّعة.
مراجعة التحوّلات التاريخيّة في هذا الحساب تشير إلى أنّ قيمة الذهب ارتفعت منذ منتصف شهر شباط الماضي بأكثر من 6 مليار دولار، بينما بلغت قيمة هذا الارتفاع أكثر من 6.42 مليار دولار مقارنة بأواخر شهر تموز 2023. وبذلك تكون قيمة احتياطات الذهب قد سجّلت ارتفاعًا نسبته 36% خلال فترة سنة وشهرين، وهو ما يدل على أثر تقلّبات أسعار الذهب العالميّة على ميزانيّة المصرف المركزي وملاءتها. وبشكل عام، ساهمت هذه الارتفاعات في أسعار الذهب في تقليص حجم كتلة الخسائر المقدّرة في ميزانيّة المصرف المركزي، والمُعبّر عنها بالفارق ما بين قيمة الموجودات السائلة –أو القابلة للتسييل- والمطلوبات المتوجّبة على المصرف بالعملات الأجنبيّة.
حجم السيولة المتداولة بالليرة اللبنانيّة
التطوّر المُلفت للنظر، والذي سينعكس حتمًا على عمليّات سوق القطع والتوازنات النقديّة، يرتبط بحجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة اللبنانيّة، خارج مصرف لبنان. فحجم هذه السيولة تراجع خلال النصف الثاني من شهر أيلول، من 57.35 ترليون ليرة لبنانيّة، إلى نحو 53.46 ترليون ليرة لبنانيّة، لتسجّل بذلك انخفاضًا قيمته 3.89 ترليون ليرة. وبهذا الشكل، يكون مصرف لبنان قد امتصّ نحو 6.7% من حجم هذه السيولة، خلال فترة قصيرة لم تتجاوز الأسبوعين. وكما أشرنا سابقًا، ترتبط هذه التطوّرات طبعًا بطبيعة السياسة النقديّة القائمة، وعلاقتها بالسياسة الماليّة المتبعة في وزارة الماليّة، وخصوصًا من جهة استخدام حاصلات الرسوم والضرائب لامتصاص السيولة من السوق.
أهميّة هذا التطوّر، تكمن في لجم حجم الليرات المتوفّرة في سوق القطع، والتي يمكن أن تتحوّل في أي لحظة –وخصوصًا في فترات الأزمات كالتي نعيشها اليوم- إلى طلب على الدولار الأميركي. أي بمعنى آخر، كل خفض لحجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة، سيعني حتمًا ضبطًا متزايدًا لسعر صرف الليرة اللبنانيّة، وهو ما يحقّق أهداف السياسة النقديّة المتبعة حاليًا، والتي تعطي اهتمامًا خاصًا بالحفاظ على ثبات سعر صرف الليرة اللبنانيّة في سوق القطع.
في النتيجة، تدل هذه الأرقام على أنّ التوازنات النقديّة القائمة ما زالت على حالها، بمعزل عن الضغط الذي شهدته السوق خلال الأسبوعين الماضيين، بفعل القلق الذي صاحب توسّع الأعمال الحربيّة. والمعادلات التي فرضها مصرف لبنان لتحقيق هذا التوازن، بمعزل عن تداعيتها السلبيّة على مستوى الميزانيّة العامّة للدولة، لم تتأثّر بالخضّات الأخيرة.