يبدو أن الإتفاقية الموقعة بين لبنان وصندوق النقد الدولي على مستوى الفريق التقني، والتي أنجزت في نيسان الماضي، توارت عن الأولويات. فتناسى السياسيون أن «الصندوق» ينتظر إنجاز الإصلاحات وإصدار القوانين التي تكوّن الشروط المسبقة للإتفاق النهائي، والتي تتزاحم ملفاتها وتراوح مكانها.
حتى أن «الصندوق» يكاد ييأس من المنظومة اللبنانية الحاكمة، علماً بأن أنظاره واهتماماته منصبة على دول أخرى، وهي عدّة تحتاج الى المساعدة نتيجة الحرب الأوكرانية التي ترخي بتداعياتها الإقتصادية السلبية والتضخمية على معظم دول العالم.
وعلى وقع الأجواء المحلية المتشنّجة والتشاؤمية والتي تزداد سوءاً مع فلتان اسعار الدولار في الاسواق الموازية، استغرب وزير العمل السابق والخبير في شؤون موازنات الدول كميل ابوسليمان خلال حديثه الى «نداء الوطن»، «عدم تحريك المسؤولين واللبنانيين ساكناً». معتبراً أن «تجاوز الدولار سقف الـ60 ألف ليرة يدخلنا في مرحلة جديدة مؤلمة من مراحل المسار الإنحداري الذي لن يتوقّف إلا عبر إتفاق مع صندوق النقد الدولي».
وقال أبوسليمان: «حسب معلوماتي لم يحصل في تاريخ صندوق النقد الدولي مرور أكثر من 10 أشهر على إنجاز الإتفاق الأولي من دون التوصّل الى إتفاق نهائي، وإستكمال الدولة طالبة المساعدة الشروط المطلوبة منها، لعرض الإتفاق على المجلس التنفيذي للصندوق والتوقيع عليه.
فالدولة لم تلتزم بالوعود التي قطعها الرؤساء الثلاثة عند إتمام الإتفاق الأولي، علماً أن الشروط الموضوعة من قبل صندوق النقد لا تعدّ تصادمية، وإنما هي إصلاحات تصبّ في مصلحة الشعب اللبناني وكل من يتحلّى بالشفافية وينشدها».
تدهور تراكمي للإقتصاد
ويرتكز برنامج الصندوق على الوضع الإقتصادي الذي كان موجوداً عندما حصل الإتفاق الأولي، لذلك أعرب أبوسليمان عن خشيته من أن «الشروط التي وضعت من قبل صندوق النقد لم تعد كافية بالنسبة اليه، نظراً لتغيّر وضع المالية العامة في البلاد عمّا كان عليه حين تمّ توقيع الإتفاق الأولي، بسبب التدهور التراكمي للوضع الإقتصادي الذي برز من خلال الآتي:
– التدهور الكبير في سعر صرف الدولار منذ نيسان 2022 عند الإتفاق مع صندوق النقد الدولي، من 26500 ليرة لبنانية الى 63 ألف ليرة اليوم.
– تدهور إحتياطي مصرف لبنان المعلن عنه، وهو ما تبقى من اموال المودعين من 12 مليار دولار، الى 8 مليارات دولار.
– زيادة التضخم من 220% الى 240%.
من هنا ضرورة تنفيذ الشروط الواردة في الإتفاقية في أسرع وقت ممكن، لإعادة بعض من مصداقية لبنان مع صندوق النقد الدولي».
تصويب البوصلة وعدم إضاعة الوقت
وفي هذا الإطار، يشدّد أبوسليمان على «ضرورة تصويب البوصلة والكفّ عن إضاعة الوقت وتنفيذ الإصلاحات المتفق عليها مع صندوق النقد، لأن كل يوم تأخير يزيد من الوجع والألم على الشعب اللبناني، يؤخّر سير لبنان على سكّة التعافي، ويزيد هجرة الكفاءات والشباب، والأهمّ يدفع «الصندوق» الى تعديل او زيادة الشروط المطلوب القيام بها من الحكومة اللبنانية».
وكان برز الوزير السابق أبوسليمان في انه بين اوّل من طالب بضرورة التوجّه نحو صندوق النقد الدولي وإقرار برنامج معه في شباط 2019، أي قبل انفجار الأزمة بـ9 اشهر، لأنه كان على يقين بأن الوضع سيسوء. وصرّح وقتها أننا: «كلّما «استعجلنا» في الإتفاق مع صندوق النقد كلّما كانت الفاتورة علينا أقلّ، وكلما كانت الشروط المتوجبّة على لبنان القيام بها أسهل». وإذ يرى أن التوصّل الى اتفاق مع صندوق النقد «قصّة مطوّلة»، لفت الى «ضرورة الشروع في إقرار القوانين الإصلاحية، فما أنجز ليس سوى إقرار قانون السرية المصرفية فقط».
وفي هذا المجال، سأل: «أين تكوين الهيئة الناظمة للكهرباء والتي يجب أن تكون مستقلّة وليس استشارية تابعة لوزير الطاقة، كما هو منصوص عليه في القانون رقم 462 الذي كان أبوسليمان من شارك في إعداده على أيام رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري؟ وغيرها من المواضيع الضرورية والملحّة التي يجب إنجازها بسرعة.
ورأى انه في ظلّ عدم وجود رئيس للجمهورية، لا يمكن لمجلس النواب إقرار قوانين وإنما ما يمكن القيام به هو التوافق على نصوص القوانين بغية إقرارها دفعة واحدة عند انتخاب رئيس».
لماذا علينا تسريع توقيع الاتفاق؟
وعاد أبوسليمان وذكّر بـ»أهمية اقرار برنامج مع صندوق النقد للإعتبارات التالية:
1 – عدم طرح حلّ جدّي (محلي) للأزمة اللبنانية.
2 – الإتفاق مع الصندوق هو أحد شروط الدول المانحة والمؤسسات العالمية مثل البنك الدولي لمساعدة لبنان، والذي جدّد تأكيده السفير بيار دوكان المكلَّف تنسيق الدعم الدولي للبنان.
3 – هو أساسي لعودة الثقة والسيولة الى البلاد وبسعر صرف الدولار.
4 – يعتبر شرطاً من شروط التفاوض مع حاملي سندات اليوروبوند الأجانب».
مرحلة ما بعد الصندوق
وحول الإفادة الممكن أن تتحقّق للبنان اذا ما تمّ الإتفاق مع «الصندوق» قال أبوسليمان: «صحيح أن مبلغ الـ3 أو 4 مليارت دولار الذي سنحصل عليه من «الصندوق» ليس كبيراً، ولكن سيرخي ذلك بأجواء إيجابية من شأنها الحدّ من اتجاه الدولار الصعودي المستمرّ وفتح الباب لمساعدات اخرى».
وذكّر أنه «تمّ إنفاق مليارات الدولارات على تثبيت سعر الصرف في ظلّ عدم وجود خطّة وبرنامج إصلاحي، فوضعوا حدّاً موقتاً لانخفاض سعر الصرف لمدة محدّدة لأسباب سياسية… فأهدر ما تبقى من أموال المودعين.
واذ اعتبر أنه «لو أعد برنامج مع صندوق النقد وتمّ السير به عندما بدأت الأزمة في لبنان لكنا بدأنا بالخروج من الأزمة»، أشار الى أن «أوكرانيا واليونان خرجتا من أزمتهما خلال أقلّ من عامين ونصف العام بعد توقيع اتفاق مع صندوق النقد».
مساهمة الدولة بالتعويض على الخسائر
وإذا فتح صندوق النقد باب المفاوضات مجدّداً، فالمسألة المرجّحة برأي أبوسليمان «ضرورة التركيز على بند مساهمة الدولة بالتعويض على خسائر صغار المودعين».
والخطة كما هي معدّة تنصّ على إعادة تكوين رأس مال المصرف المركزي من قبل الدولة لغاية 2,5 مليار دولار، وهذا الرقم لن يعوّض حجم الخسائر المقدّرة بـأكثر من 75 مليار دولار في القطاع المصرفي ومصرف لبنان.
من هنا يجب على الدولة عبر مصرف لبنان التعويض على بعض الخسائر للمصارف، فاستناداً الى قانون النقد والتسليف الدولة مجبرة بتعويض خسائر البنك المركزي. وتلك النقطة هي محطّ جدل مع صندوق النقد الذي يرى أنه لا يجب استعمال اصول الدولة في تسديد أموال المودعين. ولكن ما يتجاهله صندوق النقد أننا «لا نطلب من الدولة أن تدفع كدولة أو أن تبيع أصولها وإنما أن يعيد البنك المركزي جزءاً من ديونه للمصارف التي بدورها يجب أن تعيدها الى صغار المودعين، من خلال قسم من مردود مرافقها العامة كالمرفأ والمطار… وقسم من واردات الغاز في المستقبل».
وفي هذا المجال، نتكلّم عن علاقة تعاقدية وليست سيادية (بين الدولة ومصرف لبنان من جهة والمودعين من جهة أخرى)، فالبنك المركزي إستدان الأموال والدولة مسؤولة عن إعادة تكوين رأس ماله». معتبراً أنه «لغاية اليوم تتمّ مقاربة البعض للأزمة على اساس شعبوي من خلال التذاكي وطرح حلول واقتراحات وهمية لا أمل أن توضع موضع التنفيذ، من هنا لا بدّ من وجود حسّ وطني للخروج من الأزمة».
المحاسبة أو الحلول أوّلاً؟
وشدّد على ضرورة الأخذ بعين الإعتبار النقاط التالية:
– لا يجب ان يشمل التعويض أصحاب البنوك أو المدراء أو السياسيين الذين عليهم رائحة فساد من دون تبرئتهم، ويجب أن يكون لمصلحة صغار المودعين.
– هناك فارق بين الحلول والمحاسبة. فللمسؤولية حيّز هام وبداية المحاسبة ضرورية، ولكن لغاية اليوم لم تحصل أي خطوة في هذا السياق. وفي كلا الحالتين لا يمكننا انتظار انتهاء المحاسبة لإيجاد الحلول بل يجب البدء فوراً بالمحاسبة والسير بخطّين متوازيين. والأوروبيون شرعوا بالمحاسبة قبل اللبنانيين».
ورأى أن «للمحاسبة أهميّة قصوى، مقترحاً البدء بتطبيق القانون رقم 44 /2015 المتعلق بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الارهاب، فكل مساهم أساسي في مصرف او سياسي حوّل أموالاً بعد تشرين 2019 ارتكب جرماً بنظري. فليبدأوا بالإفصاح عن المساهمين الكبار والمدراء في البنوك والسياسيين الذين حوّلوا الأموال والمحاسبة في هذا الموضوع، وهذه المسألة لا تتطلب قوانين جديدة أو إصدار قرارات حكومية».
من هنا اذا باشر صندوق النقد التفاوض مع الدولة اللبنانية، على الأخيرة ان تركّز على نقطة واحدة وهي زيادة مساهمتها في صندوق تعويض الخسائر لصغار المودعين، وتوازياً تترتب عملية الشروع في المحاسبة بدءاً بتطبيق القانون رقم 44/2015.
لم يحصل في تاريخ صندوق النقد مرور أكثر من 10 أشهر على إنجاز إتفاق أولي من دون التوصّل الى إتفاق نهائي.
***
الدولة لم تلتزم بالوعود التي قطعها الرؤساء الثلاثة عند الإتفاق الأولي، علماً ان الشروط الموضوعة من قبل الصندوق لا تعدّ تصادمية
***
التدهور التراكمي للوضع الإقتصادي غيّر وضع المالية العامة في البلاد عمّا كان عليه حين تمّ توقيع الإتفاق الأولي.
يجب الا ننسى ان الإتفاق مع الصندوق هو أحد شروط الدول المانحة والمؤسسات الدولية مثل البنك الدولي لمساعدة لبنان.
***
الوقت مهم جداً… أوكرانيا واليونان خرجتا من أزمتيهما خلال أقلّ من عامين ونصف العام بعد توقيع اتفاق مع صندوق النقد.
***
لغاية اليوم تتمّ مقاربة البعض للأزمة على اساس شعبوي من خلال التذاكي وطرح حلول واقتراحات وهمية غير قابلة للتنفيذ.