أدوات عادلة ومجدية لردم الفجوة الماليّة

خلال الأسبوع الراهن، قامت “المدن” -في مقالين- بجردة شاملة تعكس وضعيّة القطاع المصرفي، بما شمل ميزانيّات المصرف المركزي وفجوة الخسائر المتراكمة فيه أولًا، والمصارف التجاريّة وبنية الودائع المتبقية فيها ثانيًا.

وكان لتوقيت هذه الجردة أهميّته في هذه المرحلة بالذات، إذ قدّمت “المدن” آخر المعطيات المُحدّثة التي يفترض أن يتم الاستناد إليها، عند مناقشة قانون الانتظام المالي خلال الفترة المقبلة. ومن المعلوم أنّ صندوق النقد أوصى بتقديم المشروع للحكومة خلال شهر أيلول المقبلة، للتمكّن من فتح النقاش بشأنه قبل دخول البلاد في أجواء حملات الانتخابات النيابيّة.

تذكير بأهداف القانون

لقانون الانتظام المالي المنتظر عدّة أهداف. لكن يمكن الحديث عن هدفين رئيسيّين يمكن تحديدهما كمعيار لنجاح أو عدم نجاح عمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي:

أولًا، وضع آليّات مجدية وعادلة لردم الفجوة في ميزانيّة مصرف لبنان، أي الفارق بين التزامات المصرف المركزي من جهة، وما تبقى من أصول سائلة أو قابلة للتسييل جهة أخرى. نجاح هذه العمليّة، سيعني استعادة المصرف المركزي لتوازنه، من الناحية النظريّة على الأقل، أو من ناحية الملاءة (باللغة المحاسبيّة). إذ من المعلوم أن جزءًا من موجودات المصرف المُعتد بها لا يمكن تسييله مباشرةً، كحال الذهب، فيما يمكن استعمال احتياطات المصرف المركزي الماليّة فورًا.

ثانيًا، وضع سلّم أولويّات لتسديد الودائع، بدءًا بالصغرى منها، باستعمال احتياطات مصرف لبنان وسيولة المصارف التجاريّة الجاهزة. أمّا تقسيط الودائع الأكبر حجمًا، فسيخضع لآليّات أكثر تعقيدًا. ولهذا التدرّج في التسديد، حتّى بعد التخلّص من الفجوة، سبب مفهوم، إذا ما تذكّرنا عدم القدرة على التسييل الفوري لأهم موجودات مصرف لبنان (الذهب).

كيف نعالج الفجوة؟

سيختلف حجم الفجوة الماليّة مع اختلاف المقاربة التي سيتم اعتمادها لاحتساب الموجودات والالتزامات والخسائر المتراكمة. لكن الذهاب نحو الحساب الأكثر بساطة، الذي يلحظ الذهب والاحتياطات الماليّة معًا، يقدّر هذه الفجوة -في مصرف لبنان- بنحو 42 مليار دولار. وهذا الرقم يستثني ما تراكم من خسائر في ميزانيّة كل مصرف تجاري على حدة، وهذا يبقى من مسؤوليّة المصرف وحده قانونًا.

ثمّة من يطرح، بحسب مشروع جمعيّة المصارف الأوّل، تحويل هذا المبلغ (برمّته، ومن دون إخضاعه إلى أي تدقيق) إلى دين على الدولة أو مصرف لبنان. وهذا سيعني عمليًا، تحويل حقوق المودعين إلى دين عام يدرك القاصي والداني عدم إمكان تسديده. فالدولة التي يُطلب منها تحمّل هذا الدين، تنوء أساسًا تحت وطأة ديون يقارب حجمها ضعفي حجم الاقتصاد المحلّي. وتحويل الفجوة إلى دين عام، سيعني وضع المودعين على قدم المساواة مع حملة سندات اليوروبوند، الذي ينتظرون إعادة هيكلة ديونهم وإخضاعها للاقتطاع. يمكن أن يُطلب من الدولة إعادة رسملة مصرفها المركزي ضمن حدود معيّنة، لكنّ تحويل الفجوة بأسرها إلى دين عام سيعني تحميل المودع للخسارة النهائيّة.

المنطق يفرض إذًا وضع معايير لمحاولة تقليص الفجوة على أسس عادلة، كي لا يُخدع المودع بتحويل حقوقه من “لولارات” في المصارف إلى أسهم دفتريّة في “صندوق” معلّق في الهواء. وبخلاف ما يتم تسويقه بإلحاح من قبل أوساط اللوبي المصرفي، تقليص الفجوة على أسس عادلة لا يعني “شطب الودائع”، بل على العكس: هو يعني إعادة التوازن الذي يسمح بتسديد الودائع، بعد معالجة أمر الالتزامات غير المُستحقّة. ومن يرفض الأدوات العادلة لتقليص الفجوة، له أسبابه ومصالحه.

أمثلة عن أدوات عادلة ومجدية

ما سيلي ذكره من أمثلة عن أدوات عادلة ومجدية لردم الفجوة لا يستند إلى أي معلومات حول ما يتم البحث فيه حاليًا، إذ يخضع مسار إعداد مشروع القانون لسريّة كبيرة، في هذه المرحلة. بل تستند هذه الأفكار إلى كل ما تم طرحه سابقًا حول هذا الموضوع، لتشكيل أرضيّة مناسبة لعمليّة الإعادة الهيكلة المنتظرة. ومن هذه الأدوات المتاحة والممكنة حاليًا:

– البدء باستعمال الأموال الخاصّة، أي حقوق المساهمين في المصارف، لإطفاء الفجوة. بحسب الميزانيّات المصرفيّة، تقدّر قيمة هذه الحقوق حاليًا بنحو 5.23 مليار دولار، لكن تدقيقًا جديًا في قيمة أصول المصارف قد يرفع هذا الرقم إلى مستويات أعلى. إذ من المعلوم أن جزءًا كبيرًا من موجودات المصارف الثابتة (العقارات ضمنًا) ما زال مدونًا بقيمته التاريخيّة، أي قيمة شرائه بالليرة منذ عقود. وإعادة تقييم هذه الأصول، ستعيد -بالتوازي- تقييم حقوق المساهمين.

كيف يمكن استعمال حقوق المساهمين لإطفاء الخسائر؟ ببساطة، عبر شطبها من الدفاتر، والسماح بدخول مساهمين جدد قادرين على ضخ سيولة جديدة في المصارف، مقابل الاستحواذ على الأسهم. أو يمكن السماح بتحويل طوعي لجزء من الودائع إلى أسهم في المصارف. وفي الحالتين النتيجة واحدة: تخفيض الفجوة، إما عبر زيادة الأصول أو تخفيض الالتزامات.

– مراجعة الفوائد والأرباح غير التقليديّة: وهذه الأداة لا تشمل حتمًا الفوائد العاديّة التي جرى عرضها لزبائن المصارف، وإن سجّلت هذه الفوائد ارتفاعات ملحوظة بين سنتيّ 2015 و2019. ولكنّها تشمل العروض السخيّة وغير المألوفة، التي تم منحها من قبل مصرف لبنان والمصارف التجاريّة في تلك الفترة، لحلقة من العملاء المحظيين، والتي حقّقت أرباحًا تفوق المعدلات المتعارف عليها (كجزء من عمليّات الهندسات الماليّة). كما تشمل الأرباح الضخمة التي حقّقها أصحاب المصارف، جرّاء الاشتراك في الهندسات. مراجعة هذه الأرباح والفوائد، ورفعها من القيود، يمكن أن تسهم في تخفيض حجم الفجوة.

يصعب تقدير حجم الفوائد والأرباح التي جرى منحها في تلك الفترة، ومنها تلك التي ما زالت مدونة كالتزامات في النظام المصرفي. لكن لتقدير ضخامة المبلغ، يكفي التذكير بأنّ أحد المصارف اللبنانيّة حقّق خلال سنة 2016 وحدها ربحاً صافيًا -لمصلحة مساهميه- بقيمة 1.6 مليار دولار. ويمكن تخايل المبلغ الإجمالي إذا شملنا جميع المصارف، وجميع الأفراد المحظيين، الذين استفادوا من هذه العمليّات خلال الفترة الممتدة بين 2015 و2019.

– القروض المدولرة المُسدّدة بالليرة: وهذه الأداة لا تشمل أصحاب قروض التجزئة، التي واظب المقترضون على تسديدها بالليرة بسعر الصرف الرسمي القديم بناءً على تعاميم مصرف لبنان، بعد بدء الأزمة. بل تشمل أصحاب القروض التجاريّة، من الفئة المحظيّة، الذين حصلوا على موافقات خاصّة من المصارف لتسديد قروضهم المدولرة بالليرة. وملاحقة هؤلاء، وفرض تسديد ضريبة على الربح الناتج عن هذه العمليّات، ممكن عبر وضع الحجوزات على عقارات غير الممتثلين منهم. مع الإشارة إلى أن الغالبيّة الساحقة من هذه القروض كانت ممنوحة مقابل رهونات عقاريّة.

– الودائع المحوّلة من الليرة إلى الدولار بعد الأزمة: وهذه الأداة لن تشمل أصحاب الودائع الصغيرة المتأتية من تعويضات، التي اضطرّ أصحابها إلى تحويلها إلى الدولار بعد الأزمة بسبب تعذّر سحبها. بل تشمل الودائع الكبيرة العائدة لمحظيين، من الذين استفادوا من امتيازات معيّنة لتحويل سيولتهم من الليرة إلى الدولار بسعر الصرف الرسمي القديم، بعد بدء الأزمة. وهنا، يمكن تحديد آليّات معيّنة لتسديد هذه الودائع، بأسعار صرف خاصّة تقل عن سعر السوق الحالي.

– الودائع الناتجة عن تجارة الشيكات: وهذا يفترض وضع معايير معيّنة لتمييز هذه الأموال، عن سائر الودائع التي جرى نقلها لأسباب أخرى بين المصارف. ويمكن تحديد آليّات خاصّة لتسديد الودائع الناتجة عن تجارة الشيكات، بحسب سعر صرف معيّن، قد لا يوازي سعر صرف السوق.

– فرز الودائع غير المشروعة: من خلال فرض آليّة تدقيق معيّنة في مصدر الودائع الكبيرة، التي يرغب أصحابها بضمانها. مع الإشارة إلى أنّ رئيس الحكومة نوّاف سلام كرّر خلال عدّة مناسبات رغبته باعتماد هذا المعيار، لتمييز الودائع في إطار عمليّة إعادة الهيكلة.

– عقارات واستثمارات مصرف لبنان: يمتلك مصرف لبنان كتلة كبيرة من العقارات والاستثمارات المُسجّلة في الميزانيّات بقيمتها التاريخيّة، أو بقيم تقل عن قيمتها الفعليّة حاليًا. وهذا ما يمنع لحظ هذه الأصول عند مراجعة حجم الفجوة الحاليّة. ومن الناحية العمليّة، يمكن لهذه الأصول أن تساهم في تقليص حجم الفجوة، في حال إعادة تقييمها، ومن ثم تحديد آليّات لاستعمالها خلال عمليّة إعادة الهيكلة.

كل ما سبق ذكره مجرّد أمثلة، من لائحة يمكن أن تطول أكثر، للدلالة على وجود آليّات عادلة لتقليص الفجوة، من دون أن يعني ذلك الاتجاه نحو “شطب” الودائع المُستحقّة. وجميع هذه الأدوات باتت متاحة اليوم، بعد إقرار المجلس النيابي قانون رفع السريّة المصرفيّة، مع مفعول رجعي يصل إلى 10 سنوات، وهو ما يسمح بمراجعة العمليّات السابقة. تطبيق هذا النوع من الإجراءات، يمكن أن يضفي على عمليّة إعادة الهيكلة قدرًا أكبر من العدالة، كما يمكن أن يساهم في تسديد الودائع المُستحقة بالفعل.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةشركات الطيران الخليجية جائزة ستارلينك الكبرى للاتصال الفضائي
المقالة القادمةمناقصات المحروقات: اتفاق إطار وشيك؟