خلال العام الماضي، قفزت قيمة السلع التي استوردها لبنان بنسبة 39%، لتتجاوز حدود 19.05 مليار دولار في نهاية السنة، ما جعلها تلامس مستويات ما قبل الأزمة عام 2019. كان من الواضح أنّ جزءاً كبيراً من هذه الزيادة يعود لارتفاع أسعار مشتقات النفط المستوردة، بالإضافة إلى الضغوط التضخميّة التي نتجت عن ارتفاع أسعار النفط، والتي طالت أسعار سائر السلع المستوردة. إلا أنّ البعض أصرّ على اعتبار هذا التطوّر بمثابة انتعاشة اقتصاديّة تشير إلى ارتفاع مستويات الاستهلاك، بالرغم من عدم دخول البلاد أي مسار جدّي للتصحيح المالي والنقدي.
يومها، لم يكن هذا الكلام بريئًا. فالمطلوب من تسويق تلك الانتعاشة، لم يكن سوى للتقليل من شأن الإصلاحات المطلوبة من لبنان، والتي تمس بطبيعتها مصالح النخب السياسيّة والماليّة في البلاد. ومن هذا الزاوية، يمكن فهم إصرار حاكم المصرف المركزي السابق، رياض سلامة، والنخب المقرّبة منه على الاستناد لهذه الأرقام، للحديث عن “نمو اقتصادي” حققته البلاد عام 2022، وهو ما عاكس أرقام كبرى المؤسسات الدوليّة مثل صندوق النقد والبنك الدولي. اليوم، جاءت أرقام 2023 لتؤكّد المؤكّد: الجزء الأكبر من زيادة الاستيراد عام 2022 لم يكن علامة انتعاش، بل كان زيادة اضطراريّة نتيجة ارتفاع أسعار النفط، بدلالة انخفاض أرقام الاستيراد هذه السنة مع انخفاض معدّل كلفة استيراد المحروقات.
أرقام 2023 تكذّب الكلام عن انتعاشة 2022
حين شهد لبنان هذه الزيادة المضطرة في أرقام الاستيراد، عام 2022، كان هذا التطوّر يترافق مع ارتفاع متوسّط أسعار برميل النفط (خام برنت) من 70.86 دولاراً أميركياً للبرميل عام 2021 إلى 100.93 دولار أميركي للبرميل عام 2022، ما عكس زيادة بنسبة 42% بين الفترتين. وكما هو معلوم، جاءت هذه الزيادة الكبيرة نتيجة مجموعة من العوامل، مثل تداعيات الحرب الأوكرانيّة، واستعادة الطلب على النفط عافيته، بالتوازي مع الخروج من أزمة تفشّي وباء كورونا.
على هذا الأساس، يمكن فهم ارتفاع كلفة الاستيراد في تلك السنة بنسبة مشابهة تقريبًا، أي 39%. فارتفاع أسعار النفط لا يرفع فقط كلفة استيراد المشتقات البتروليّة، والتي كانت تمثّل ربع فاتورة الاستيراد السنة الماضية، بل يرفع كذلك أسعار سائر المنتجات التي يدخل النفط في كلفة إنتاجها وشحنها. مع الإشارة إلى أنّ صندوق النقد الدولي يتوقّع أن تكون نسبة التضخّم العالمي قد بلغت حدود 8.7% خلال العام الماضي، نتيجة عوامل عدّة، منها ارتفاع أسعار النفط.
خلال العام 2023، انقلبت الآية، بعدما تراجع متوسّط سعر برميل النفط إلى نحو 79.75 دولاراً أميركي حتّى اليوم، أي بانخفاض تتجاوز نسبته 20%، مقارنة بمتوسّط السنة الماضية. ومن المعروف أنّ هذا الانخفاض يأتي بشكل أساس كنتيجة لتأقلم أسواق النفط مع التحوّلات التي طرأت على سلاسل إمداد مصادر الطاقة، بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، بالإضافة إلى قرارات تخفيض الإنتاج التي اتخذها تحالف أوبيك +.
في كل الحالات، وبالتوازي مع انخفاض متوسّط سعر برميل النفط على هذا النحو، تراجع حجم السلع المستوردة في الأشهر السبعة الأولى من العام 2023 إلى 9.8 مليار دولار أميركي، أي بانخفاض كبير نسبته 9.3%، مقارنة بالفترة المماثلة من لعام الماضي. مع العلم أنّ العام الحالي شهد زيادة لافتة في أعداد الوافدين إلى لبنان، ما كان يفرض زيادة الطلب على الاستهلاك لا العكس. وبهذا الشكل، كان من الواضح أن العامل الأساسي الذي تحكّم في زيادة قيمة الاستيراد عام 2022، ومن ثم انخفاضها عام 2023، كان أسعار النفط العالميّة، ومعدلات التضخّم العالميّة التي أثّرت على أسعار سائر السلع.
الدخول في تفاصيل فاتورة الاستيراد تؤكّد هذه النظريّة. فكلفة استيراد النفط ومشتقاته تراجعت خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي بقيمة 541 مليون دولار، مقارنة بالفترة المماثلة من العام الفائت، أي بانخفاض نسبته 17.3%. وبهذا الشكل، أكّدت الأرقام أن انخفاض فاتورة استيراد النفط ومشتقاته بالتحديد لعب دورًا كبيرًا في قيادة الانخفاض في حجم الاستيراد الإجمالي، خلال العام الراهن. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه التطوّرات خفّضت نسبة السلع النفطيّة، من إجمالي فاتورة الاستيراد، إلى 26% خلال هذه السنة، مقارنة بـ29% خلال السنة الماضية.
تآكل حجم الصادرات
البحث عن معالم “الانتعاشة الاقتصاديّة” المزعومة، تقودنا للسؤال عن وضعيّة القطاعات المنتجة، وتحديدًا من جهة قدرتها على التصدير وتقليص العجز في الميزان التجاري، أي الفارق بين الصادرات والواردات. أرقام الميزان التجاري في الأشهر السبعة من الأولى من العام 2023 تُظهر أنّ حجم الصادرات اللبنانيّة في هذه الفترة لم يتخطّ 1.6 مليار دولار أميركي، أي بانخفاض كبير نسبته 24.2% مقارنة بالفترة المماثلة من العام السابق.
والحديث عن تراجع الصادرات اللبنانيّة، يدفعنا تلقائيًا إلى البحث عن التحديات التي تواجه القطاعات الإنتاجيّة الإساسيّة في ظل الأزمة الراهنة، وفي طليعتها ارتفاع كلفة الإنتاج بعد تعديل تعرفة الكهرباء وزيادة الرسوم الثابتة على المعامل والمؤسسات، في مقابل استمرار ساعات التقنين الطويلة والحاجة المستمرّة لتشغيل المولّدات الخاصّة المكلفة. وهذا تحديدًا ما دفع بعض الشركات إلى الاستغناء عن اشتراكات مؤسسة كهرباء لبنان كليًا، والاعتماد حصرًا على الاشتراكات أو المولّدات الكهربائيّة الخاصّة. وفي الوقت نفسه، ساهم رفع الدعم كليًا عن المحروقات في إزالة آخر العوامل التي ساعدت القطاعات المنتجة على ضبط كلفة التشغيل، في ظل تدهور سعر صرف الليرة اللبنانيّة.
في جميع الحالات، وفي حصيلة كل هذه التطوّرات، سجّل الميزان التجاري حتّى نهاية شهر تمّوز عجزًا بقيمة 8.2 مليار دولار أميركي، وهو ما ساهم في الضغط على ميزان المدفوعات والحاجة للعملة الصعبة لتمويل الاستيراد. وبهذا المعنى، لا يمكن النظر إلى ارتفاع كلفة الاستيراد كعلامة صحيّة تعبّر عن تحسّن القدرة على الاستهلاك. بل ينبغي مقاربتها كمؤشّر سلبي، من جهة الحاجة لتدفّقات إضافيّة من العملة الصعبة، لتمويل العجز المستمر في الميزان التجاري، وتأمين الدولارات لتغطية فاتورة الاستيراد.
أمام هذا الواقع، تنسجم كل هذه الخلاصات مع استنتاج البنك الدولي، الذي أشار في آخر تقاريره إلى أنّ التطبيع مع الأزمة ليس طريقًا للاستقرار، كما يحاول البعض الإيحاء في لبنان. بل وعلى العكس تمامًا، حرص البنك الدولي على وضع هذا الاستنتاج كعنوان لتقريره، للتشديد على رفضه لتلك المقاربة، التي تتفاءل ببعض المؤشّرات –مثل زيادة حجم الاستيراد عام 2022- لادعاء إمكانيّة الخروج من الأزمة والتعافي، من دون سلوك درب الإصلاحات المطلوبة من الحكومة ومجلس النوّاب والمصرف المركزي. ومن الملفت للنظر يومها أنّ البنك الدولي لحظ مسألة تزايد عجز الحساب الجاري، نتيجة زيادة حجم الاستيراد، لكن بوصفها علامة تأزّم نقدي، لا علامة تعافٍ كما يعتقد البعض.