عاد ملف مكافحة الفساد في تونس ليخيم على الأجواء الرسمية من جديد، بعد فتح القضاء تحقيقات في شبهات طاولت مسؤولين في قطاعات عدة، بينها سلك القضاء ذاته، بينما تسود شكوك في جدية السلطات في الحد من حالات التربح وإهدار المال العام التي استشرت في السنوات الأخيرة.
وشهدت الدولة قبل أيام صخبا واسعا، بعد قرار توقيف وزير البيئة مصطفى العروي، في أعقاب إقالته، حيث طاولته اتهامات بتسهيل دخول شحنات نفايات خطرة من إيطاليا إلى تونس، وكذلك رئيس حزب قلب تونس والمرشح السابق للرئاسة نبيل القروى المدان في قضية تبييض أموال.
وعرفت جولة الحرب على الفساد الأخيرة أحداثاً متسارعة، تزامنا مع الذكرى العاشرة للثورة التونسية التي كان فساد نظام زين العابدين بن علي أحد أسباب اندلاعها.
غير أن الكثير من التونسيين باتوا يشككون في جدية سلطات بلادهم في مكافحة الفساد، بسبب غياب الشفافية في التعامل مع قضايا الفاسدين، ومحاولة الأحزاب توفير الغطاء السياسي والقانوني للمتهمين، الأمر الذي يكرس للفساد، حيث تظهر البيانات الرسمية، تجاوز حالات شبهات الفساد 39 ألف حالة، أحيلت ملفاتها إلى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (هيئة حكومية مستلقة).
وعقب إصدار القطب القضائي والمالي قراراً بسجن رئيس حزب قلب تونس نبيل القروي مؤخرا، قالت الكتلة البرلمانية لحزبه إن أطرافا (لم يسمها) تحاول عزل الحزب عبر حبس رئيسه في قضية “فساد مالي”.
جاء ذلك على لسان رئيس كتلة الحزب بالبرلمان أسامة الخليفي (30 مقعدا من أصل 217)، خلال مؤتمر صحافي، يوم الخميس الماضي، مشيرا إلى وجود ما أسماها “سهاما سياسية وسكاكين الغدر، التي لم تدع أي فرصة لمحاولة عزل قلب تونس والتنكيل برئيس الحزب ونوابه”، من دون تسمية طرف بعينه.
غير أن المتحدث باسم المحكمة الابتدائية محسن الدالي، قال لـ”العربي الجديد” إن “القروي موجود في السجن بناء على قرار قضائي صادر عن القطب القضائي والمالي في قضية تتعلق بتبييض الأموال”.
ويعتبر المحامي وكاتب الدولة السابق لدى وزير الداخلية عبد الرزاق بن خليفة، أن “الحديث عن الفساد بات الخطاب الأكثر رواجا في تونس، في وقت بات فيه التلازم بين الفساد المالي والفساد السياسي أمرا ثابتا”.
وقال بن خليفة لـ”العربي الجديد” إن الخلل الإداري في مؤسسات الدولة ساعد بشكل كبير في تأثير بعض الفئات الاجتماعية وذوي النفوذ والمال على بعض أجهزة الدولة وتوظيفها بطرق مختلفة لتحقيق مكاسب وثروات كبيرة عبر الانخراط في أنشطة وممارسات غير مشروعة والحصول على بعض التسهيلات الائتمانية والقروض البنكية من دون وجه حق أو ضمانات، وإهدار المال العام أو الاختلاس.
واعتبر أن تشعب الإجراءات وكثرتها وتعقدها يدفعان بالمتعاملين مع الإدارة من فاعلين اقتصاديين إلى البحث عن المسالك الأقرب والأسهل، مشيرا إلى أن المنظومة الإدارية والقانونية في تونس تضيع المبادرة الاقتصادية في متاهات الشكليات والإجراءات، مما يفتح الشهية أمام محاولة الالتفاف على تلك الإجراءات بطرق ملتوية، عنوانها الفساد، وغالبا ما يتم ذلك عن طريق تدابير “قانونية”.
وقال بن خليفة إن مكافحة الفساد تتطلب إصلاحاً شاملاً لأداء الإدارة، معتبرا أن “شخصنة خطاب مكافحة الفساد والتركيز على أسماء أو فئات لا يمكن إلا أن يؤجج الصراعات ويشحذ بارونات الفساد ضد كل إصلاح”.
ويجري في تونس حاليا التجهيز لاستراتيجية وطنية بشأن الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد ومراقبة التصرف في المال العام. وأكدت عضو هيئة مكافحة الفساد ألفة الشهبى، تلقي الهيئة أكثر من 39 ألف ملف فساد خلال السنوات الخمس الأخيرة، أحيل منها أكثر من 1800 ملف إلى القضاء.
ورأى الخبير الاقتصادي فهد تريمش، أن السلطات التونسية قامت بمحاولات لمأسسة مكافحة الفساد عبر تأسيس الهيئة وإصدار مجموعة من القوانين لتعقب الفساد في كافة مصالح الدولة وحماية المبلغين، غير أن هذه المجهودات لم تعطِ أكلها بسبب ضعف الإمكانيات التي تم وضعها على ذمة الدوائر القضائية المتخصصة في النظر في قضايا الفساد.
وقال تريمش لـ”العربي الجديد” إن ضعف الإمكانيات البشرية واللوجستية الموضوعة على ذمة القطب القضائي المتخصص في قضايا الفساد تزيد من صعوبة البت في هذه القضايا وتطيل إجراءات التقاضي وربما الإفلات من العقاب، وفق تقديره.
وأضاف أن هيئات الرقابة العامة تعمل في “جزر منقطعة” من دون أي تنسيق بينها وبين الحكومة، ما يفسر عدم الأخذ بتوصياتها التي تصدرها في تقارير الرقابة الصادرة عنها، معتبرا أن مجموع هذه العوامل باتت منفّرة للمستثمرين.
وتابع أن “المتعاملين الاقتصاديين، ولا سيما الأجانب منهم، باتوا حذرين من التوجه نحو السوق التونسية، بسبب الفساد الإداري والقضائي وعدم قدرتهم على مواجهة القضاء في حال التحكيم، بينما يدفع الاقتصاد منذ سنوات فاتورة باهظة بسبب تمكن الفساد من مفاصل الدولة ومحاولات الأحزاب والبرلمان توفير الغطاء السياسي للوبيات الفساد المتنفذة”.
وقال تريمش إن “مكافحة الفساد ليست حملات انتقائية تستهدف أشخاصا من دون غيرهم، بل مجهود وطني يتعيّن على مختلف السلطات الانخراط فيه بهدف تحسين صورة تونس في الأسواق الخارجية والحفاظ على جاذبيتها الاستثمارية”.
وحلت تونس في المرتبة 74 من أصل 180 بلدًا مصنفًا في مؤشر مدركات الفساد للعام 2019 الصادر عن منظمة الشفافية العالمية، لتتأخر بذلك بمرتبة واحدة عن تصنيف العام 2018.
وأرجعت منظمة الشفافية الدولية تأخر تونس في مؤشر مدركات الفساد إلى غياب الإرادة السياسية التي تجلت في تواصل ظاهرة الإفلات من العقاب، وتواصل ظاهرة انتقائية تحريك ملفات الفساد، وعدم تطبيق قانون حماية المبلغين.
وتمثل المناقصات العمومية الأرض الخصبة لترعرع الفساد في تونس، وفق محللين، حيث يستفيد المتنفذون من المناقصات التي تطرحها الدولة محتمين بالأحزاب والسلطة السياسية، ما يجعل سهام النقد توجه نحو البرلمان الذي أوكل له القانون السلطات الرقابية.
وقال رئيس لجنة مكافحة الفساد في البرلمان بدر الدين القمودي، إن مجلس نواب الشعب لن ينفرد بالسلطة الرقابية خلال السنوات الخمس القادمة، مشيرا في تصريح لـ”العربي الجديد” إلى أن المجلس ينوي إشراك كل الفاعلين في وضع الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد في الخماسية القادمة.
وكشف الرئيس السابق لهيئة مكافحة الفساد شوقي الطبيب، عن خسائر سنوية بنسبة 25% من مجموع المناقصات الحكومية نتيجة غياب آليات الرقابة والمتابعة، أي ما يناهز ملياري دينار (714 مليون دولار) من المال العام.
وتقدر الأرقام الصادرة عن اللجنة العليا للصفقات العمومية، حجم الشراءات العمومية بـ 18% من جملة الناتج الداخلي الخام، وعلى هذا الأساس فإن قيمة الشراء العمومي في تونس، خلال سنة 2016، ناهزت 19 مليار دينار.
في يوليو/تموز الماضي تسببت شبهة فساد في مناقصة عمومية في الإطاحة بحكومة إلياس الفخفاخ، بعد مواجهة هذا الأخير شبهة تضارب المصالح وحصول شركات يملك فيها أسهماً على مناقصات بقيمة 43 مليون دينار، ما دفع رئيس الدولة، قيس سعيد، إلى مطالبته بالاستقالة وسحب البرلمان الثقة من حكومته.
وتخسر تونس سنويا جراء الفساد نحو 8.4 مليارات دينار (3 مليارات دولار)، بحسب أرقام هيئة مكافحة الفساد. ولا تعد الحرب المعلنة في تونس هذه الأيام الأولى من نوعها، حيث سبق لحزب قلب تونس الذي يواجه رئيسه نبيل القروي تهمة تبييض الأموال أن دعا إلى الإطاحة بحكومة الفخفاخ.
كذلك قاد رئيس الحكومة يوسف الشاهد عام 2017 حملة لمكافحة الفساد تم على إثرها توقيف رجال أعمال وشخصيات نافذة، غير أن الحملة واجهت انتقادات عديدة بعدما اتهمته المعارضة البرلمانية حينها بتحريك ملفات ضد الفاسدين لتحقيق مآرب سياسية، فيما لا يزال عدد من الموقوفين في تلك القضايا قيد الحبس من دون محاكمة.