مرّ أكثر من شهر على نهاية آذار، الذي اختتم الفصل الأوّل من العام الجاري. وبعد صدور نتائج الغالبيّة الساحقة من المؤشّرات الماليّة والنقديّة للأشهر الثلاثة الأولى من العام، بات بالإمكان تكوين صورة أوّليّة لنتائج هذه الفترة من السنة، التي طبعتها تداعيات الحرب في الجنوب واستمرار التأزّم المالي والمصرفي.
التقرير الصادر عن بنك عودة صباح يوم الخميس الماضي، عكس صورة بلاد تتجه نحو التأقلم مع اقتصاد مأزوم، بدل الاتجاه نحو تعافٍ مالي ونقدي حقيقي. أو بمعنى آخر، بات لبنان يتكيّف مع العيش في قعر أو حضيض الأزمة، بعد تجاوز مرحلة الارتطام.
نبرة التفاؤل واللغة الإيجابيّة
يشير التقرير إلى أنّ احتياطات مصرف لبنان سجّلت خلال الربع الأوّل من 2024 زيادة قدرها 283 مليون دولار، مع استمرار الاستقرار الذي يشهده سعر صرف الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار الأميركي. ويلفت التقرير إلى أنّ استقرار سعر الصرف على هذا النحو، يمكن أن يندرج في سياق أربعة عوامل:
– دولرة الاقتصاد المحلّي وكبح الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة اللبنانيّة.
– شبه توازن في المالية العامة في ظل “احتواء العجز في موازنة الدولة”.
– شبه توازن في الحسابات الخارجيّة، “مع تسجيل ميزان المدفوعات فائضاً طفيفاً في السنة الفائتة، بعدما كان يسجّل عجزاً سنوياً بمعدل 5 مليارات دولار منذ بداية الأزمة”.
– تقارب نسبي بين سعر الصرف الرسمي للّيرة اللبنانية إزاء الدولار الأميركي، وسعر صرف الدولار في السوق الموازية، “في ظلّ الجهود الحثيثة لإرساء أسس نظام صرف جديد موحَّد”.
يحاول تقرير بنك عودة استعراض العوامل الأربع بلغة محايدة، بل وبنبرة أقرب للإيجابيّة. وقد يكون ذلك مفهومًا بالنسبة إلى تقرير مصرفي يتناول السياسة النقديّة، التي يشرف عليها مصرف لبنان، صاحب سلطة الوصاية والرقابة على القطاع المصرفي.
لكن العارف بخلفيّة الأرقام التي يشير إليها التقرير، يعرف أن هناك ما يدعو للحذر الشديد قبل التفاؤل بكل تلك التطوّرات.
أسباب تدعو للخشية والحذر
ما يسمّيه التقرير “شبه توازن في الماليّة العامّة” هو في واقع الأمر سياسة تقشفيّة غير تقليديّة أبدًا، تقوم على مراكمة ودائع القطاع العام في حساباته لدى مصرف لبنان. أي بصورة أوضح، ما يجري اليوم لا يقتصر على تقنين استدانة الدولة من مصرف لبنان، بل أكثر من ذلك: تقوم الحكومة حاليًا بجمع الليرات الورقيّة من خلال الرسوم والضرائب، ومن ثم إيداعها في مصرف لبنان، للسماح بالحد من حجم السيولة المتداولة بالليرة في السوق. هكذا، يحقّق مصرف لبنان هدف “كبح الكتلة النقديّة” تمامًا كما أشار بنك عودة، إنما على حساب أهداف السياسة الماليّة للحكومة.
قد يبدو استقرار سعر الصرف إنجازًا يُحتفى به. غير أنّ سياسة من هذا النوع لا تمثّل بأي حال من الأحوال حلًّا مستدامة للأزمة النقديّة، خصوصًا أن الدولة ستضطر عاجلًا أم آجلًا إلى تصحيح حجم الإنفاق بالتوازي مع تصحيح حجم الضرائب والرسوم التي يتم تحصيلها من السوق.
وهذا ما جرى خلال شهر آذار على أي حال، بعدما بدأت الدولة بصرف قيمة المساعدات الاجتماعيّة لموظفي القطاع العام. أمّا الأهم، فهو أن دولرة العمليّات في السوق، مع امتصاص السيولة بالليرة، يمثّل انسحابًا من جانب السلطة النقديّة من السوق، بدل أن يلعب مصرف لبنان دوره في التحكّم بسياسة نقديّة مستدامة على المدى البعيد.
لهذا السبب، أصاب بنك عودة عند الإشارة إلى أوّل عاملين، إذ أن الأرقام المتاحة تدل بالفعل على تقشّف الماليّة العامّة وكبح الكتلة النقديّة. إلا أنّ التقرير لم يقدّم للقارئ الأسباب التي يفترض أن تدعو للحذر إزاء سياسة نقديّة تبتعد عن دورها الحقيقي، وتحمّل كلفة أدواتها إلى الماليّة العامّة.
لا تثقوا بأرقام ميزان المدفوعات
في المقابل، ابتعد التقرير عن الموضوعيّة العمليّة عند تناوله العامل الثالث، المتعلّق بفوائض ميزان المدفوعات. ففريق الأبحاث في بنك عودة يعلم جيدًا –وهو أشار إلى ذلك العام الماضي بالمناسبة- أنّ مصرف لبنان يلجأ إلى بعض الحيل المحاسبيّة الدفتريّة، التي لا تعبّر عن أي تدفقات ماليّة فعليّة، لزيادة فوائض ميزان المدفوعات المُعلن عنها.
ببساطة: من المفترض أن يعكس ميزان المدفوعات صافي حركة الرساميل المتدفقة من وإلى النظام المالي خلال فترة زمنيّة معيّنة. إلا أنّ جزءاً أساسياً من التغيّرات التي يرصدها مصرف لبنان منذ العام الماضي، لاحتساب ميزان المدفوعات، ليست سوى نتيجة لتغيّر قيمة بعض بنود ميزانيّات المصارف، جرّاء تغيّر سعر الصرف الرسمي المعتمد لإعداد الميزانيّات. وبهذا المعنى، لا قيمة فعليّة أو علميّة للإشارة إلى فائض ميزان المدفوعات اليوم. ومن المستغرب أن ينجرّ تقرير بنك عودة إلى ذكر هذا العامل “الإيجابيّ” اليوم، بعدما التفت إلى عدم دقّة المؤشّر العام الماضي.
أمّا بالنسبة إلى التقارب ما بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق الموازية، فهو يعبّر طبعًا عن تقدّم ما، مقارنةً بحقبة تعدّد أسعار الصرف. لكن هذه الخطوة تبقى ناقصة بغياب المنصّة الموعدة، التي كان من المفترض أن تدير –بشكل شفاف ونزيه- آليّات العرض والطلب على العملة المحليّة. وبغياب هذه المنصّة، تبقى جميع أدوات السياسة النقديّة المعتمدة غامضة وملتبسة، وخصوصًا من جهة طريقة بيع وشراء الدولارات من جانب مصرف لبنان في السوق.
عمليًا، كل ما أشار إليه تقرير بنك عودة هو آليّات التأقلم مع الحضيض، لا أكثر ولا أقل. المشكلة الأساسيّة هنا، هي أن التأخّر في إقرار الإصلاحات الجذريّة سيجعل الخروج من قعر الأزمة أصعب في المستقبل، في ظل التآكل الذي يصيب إدارات الدولة اللبنانيّة وأدوارها. وهذا ما يفترض أن يدعونا للخشية من الخطاب الذي يطبّع الأزمة بحالتها الراهنة، بدل الإصرار على الخروج منها عبر خطّة التعافي الشاملة.