قدّم التقرير الشهري الذي تُعدّه جمعيّة المصارف مجموعة من المؤشّرات، التي تعرض وضعيّة القطاع لغاية أواخر النصف الأوّل من هذه السنة، أي حتّى نهاية شهر حزيران الماضي. التحوّلات والأنماط التي تعرضها الأرقام، تتشابه بمجملها مع الكثير من التطوّرات التي طرأت على القطاع خلال الأشهر الماضية، وخصوصًا من جهة التآكل التدريجي في حجم الودائع والقروض ونطاق عمليّات المصارف اللبنانيّة.
ومع ذلك، قدّمت الأرقام الأخيرة لمحة شاملة عن تقدّم المصارف في مسار تطبيع الأزمة الراهنة والتكيّف معها، من دون الاضطرار لإجراء أي إصلاحات أو إعادة هيكلة بنيويّة، ومن دون حل أزمة الودائع القطاع. أو بصورة أوضح: بات من الممكن ملاحظة كيفيّة تجاوز أزمة المودعين، بشكل متدرّج وبعيدًا عن أي خطّة مُعلنة. هذا النمط الذي تم التمهيد له خلال الفترة الماضية، ظهرت نتائجه بوضوح من خلال أرقام النصف الأوّل من السنة الراهنة.
حركة الأموال داخل المصارف
خلال النصف الأوّل من 2024، هبطت حركة المقاصّة بين المصارف –بالعملات الأجنبيّة- إلى حدود 780 مليون دولار أميركي، أو ما يقارب الـ7.8% فقط من حجم الاقتصاد اللبناني، على أساس سنوي. وهذا الرقم، لم يمثّل ثُلث مثيله خلال الفترة المشابهة من العام الماضي، حين بلغت حركة المقاصّة في تلك الأشهر أكثر من 2.17 مليار دولار أميركي.
أمّا على مستوى عدد الشيكات المتداولة، فكان الانحسار أكبر: من 68 ألف شيك في النصف الأوّل من العام 2023، إلى 10 آلاف شيك في النصف الأوّل من العام 2024، أي أن حركة الشيكات خسرت 85% من قيمتها بين الفترتين، وخلال سنة واحدة فقط. وفي المقابل، ارتفع متوسّط قيمة الشيك الواحد، من 31.9 ألف دولار خلال العام الماضي، إلى 78 ألف دولار هذه السنة، ما يؤشّر إلى اتجاه التداول إلى الشيكات ذات القيمة المرتفعة.
على هذا النحو، استكمل الاقتصاد اللبناني –طوال النصف الأوّل من العام الحالي- مسار تطبيع وضعيّته كاقتصاد نقدي، تتركز الغالبيّة الساحقة من تداولاته على عمليّات “الكاش” الخارجة عن النظام المصرفي التقليدي. وتطبيع هذه الحال، لم يكون سوى تعايش مع الأزمة الراهنة، التي تتسم قبل كل شيء بانعدام الثقة بالنظام المصرفي، وابتعاد الأموال عن التراكم كودائع مصرفيّة داخل النظام المالي.
غير أنّ التعايش مع الأزمة وتطبيعها، اتخذ أيضًا بُعدًا آخر. إذ خلال النصف الأوّل من العام الراهن، بلغ عدد الشيكات المتداولة بالليرة أو الدولار “الفريش”، بحسب تعميم مصرف لبنان رقم 165، نحو 101.4 مليون دولار أميركي، وهو ما مثّل –وللمرّة الأولى على الإطلاق منذ بداية الأزمة- نجاحًا نسبيًا في توسيع نطاق التداول بهذه الشيكات، بعدما اقتصر تداولها على مستويات رمزيّة خلال الأشهر السابقة من العام الماضي. المُلفت أكثر للنظر هنا، هو أن قيمة هذه الشيكات ناهزت 21.8 مليون دولار خلال شهر حزيران وحده، ما يعكس تسارع وتيرة تبنّي الأسواق لهذا النمط من التداولات.
ومن المعلوم أن فكرة الشيكات “الفريش”، تُكمّل –كنظام للتداولات الماليّة- فكرة “الحسابات الجديدة” (أو الدولارات الطازجة) التي تبنّاها مصرف لبنان في تعاميمه منذ العام 2020. وهذا النظام، يُعتبر نظامًا رديفًا –وبديلًا- للنظام القديم، المتمثّل بالدولارات القديمة أو المحليّة، او اللولار وفق المصطلح الشائع. وهنا، تصبح الفكرة بحد ذاتها تعايشًا مع مشكلة الودائع القديمة، بل وتجاوزًا لها، بحثًا عن دور جديد للقطاع المصرفي المحلّي، من دون معالجة الخسائر المتراكمة في ميزانيّات القطاع.
القطاع الذي يُحجّم نفسه
على مرّ السنوات الماضية، حجّم القطاع نفسه تدريجيًا، من ناحية نطاق العمليّات وكلفة التشغيل، ليتأقلم مع الواقع الراهن ووظيفته خلال الأزمة. أرقام جمعيّة المصارف تعكس هذا الواقع بشكل واضح: بحلول بداية العام 2024، كان عدد موظفي المصارف قد تراجع ليناهز 14.69 ألف موظّف، أي ما يقل عن 60% من القوّة العاملة في القطاع عشيّة الأزمة، في أواخر العام 2019، والتي بلغ حجمها زهاء 24.7 ألف موظّف. الأكيد اليوم، هو أن المصارف قامت بتقليص حجم الكثير من دوائرها المركزيّة، التي كانت تُعنى بعمليّات مصرفيّة تقليديّة مثل التسليف والاعتمادات وغيرها، بعدما باتت غير مهيّأة اليوم لتقديم هذا النوع من الخدمات على نطاق واسع.
الانتشار الجغرافي للمصارف تأثّر أيضًا بهذا النمط. إذ بحلول بداية العام، كان عدد الفروع المصرفيّة –بحسب أرقام الجمعيّة ايضًا- قد تقلّص إلى حدود 695 فرعًا، مقارنة بـ1,058 فرعًا عشيّة الأزمة في أواخر العام 2019، وهو ما يعني أن المصارف أقفلت أكثر من ثُلث فروعها خلال سنوات الأزمة الخمس. وفي واقع الأمر، من الواضح أن المصارف لم تعد تجد في الانتشار الموسّع جغرفيًا الفائدة نفسها التي تتوخّاها قبيل حصول الأزمة، بعدما تقلّص نطاق التنافس على استقطاب الودائع المصرفيّة أو تقديم التسليفات، وخصوصًا في المناطق خارج بيروت.
على أي حال، كان من المفترض أن تكون إعادة هيكلة القطاع وتحجيمه جزءًا من أهداف أي خطّة ماليّة مدروسًا، تمامًا كما نصّت الخطط التي جرى العمل عليها في حكومتي ميقاتي ودياب. وهذه الخطط، كان يجب أن تنص على أصول لدمج المصارف بشكل متدرّج، بما يسمح باستعادة الخدمات الأساسيّة التي كانت تقدّمها قبل الأزمة. غير أنّ تعثّر هذه الخطط، ترك الساحة لعمليّة تحجيم ذاتيّة للقطاع، بقرارات اتخذتها المصارف من تلقاء نفسها، ومن دون معالجة أزمة الودائع بطبيعة الحال.
تآكل الودائع وتناقص قيمة القروض
المشهد الأخير التي تقدّمه أرقام الجمعيّة، يرتبط تحديدًا بحجم الودائع المصرفيّة المتبقية، والتي شهدت تآكلًا تدريجيًا طوال سنوات الأزمة، بفعل استعمالها لسداد القروض أو سحبها بحسب تعاميم مصرف لبنان. حتّى نهاية النصف الأوّل من العام الحالي، كان حجم الودائع المتبقية بالعملات الأجنبيّة قد بلغ 90 مليار دولار أميركي فقط، مقارنة بـ124.14 مليار دولار أميركي في أيلول من العام 2019، أي قبل حصول الأزمة. بهذا المعنى، يمكن القول أن 27.43% من إجمالي الودائع المدولرة قد جرى استنفادها، خلال السنوات الخمس، أي أكثر من ربع قيمة هذه الودائع. أمّا قيمة هذه الودائع، التي جرى سحبها أو استعمالها لسداد القروض، فناهز 34 مليار دولار أميركي.
في الجهة الأخرى من الميزانيّة، تدنّى حجم القروض المصرفيّة الممنوحة حتّى أدنى مستوياتها، ليبلغ زهاء 6.69 مليار دولار أميركي في أوخر النصف الأوّل من العام 2024، مقارنة بأكثر من 38.29 مليار دولار أميركي في أواخر أيلول 2019، أي قبيل حصول الأزمة. وبهذا الشكل، تكون المصارف قد حصّلت نحو 31.6 مليار دولار أميركي من القروض الممنوحة، إمّا عبر الشيكات المصرفيّة أو الدولار النقدي، أو بالليرة وفق أسعار صرف خاصّة.
خلاصة المشهد، الذي تقدّمه جميع هذه المؤشّرات، هي أن القطاع مستمر بسياسة التصفية الذاتية، في كل ما يرتبط بإرث وتبعات المرحلة السابقة، ومن دون أي قانون أو إطار فعلي لإعادة الهيكلة. وبالتوازي، يمضي القطاع قدمًا في الإجراءات الهادفة لتطبيع واقعه الراهن، كحال خطوة استحداث مقاصّة خاصّة للدولارات الجديدة، أو تحجيم نطاق الأعمال ليتماشى مع دور المصارف الحالي. هذا ما يعيدنا إلى فكرة خطّة الظل: أن يتم التصحيح المالي بخطوات تفرضها النخبة الماليّة والسياسيّة بحكم الأمر الواقع، ومن دون أن يُعلن عنها كخطّة كاملة.