مساء أول أمس الثلاثاء، أقفلت السوق الموازية في بيروت على ارتفاع كبير في سعر صرف الدولار، الذي بلغ حدود 32,450 ليرة مقابل الدولار الواحد، مقارنة بنحو 29,475 خلال الفترة المماثلة من الشهر الماضي. وبذلك، استكملت السوق مسار الانخفاضات السريعة والمتتالية التي شهدتها قيمة الليرة اللبنانيّة طوال الأيام الماضية، والتي نتجت بشكل أساسي عن مجموعة من القرارات النقديّة المتخبّطة التي اتخذها مصرف لبنان. مع الإشارة إلى أنّ انخفاض قيمة الليرة بهذه الوتيرة السريعة جاءت معاكسةً لجميع التوقّعات، التي رجّحت أن تشهد السوق المزيد من الارتياح النقدي خلال موسم الاصطياف، نتيجة تدفقات العملة الصعبة المتوقعة من زيارات المغتربين إلى لبنان خلال هذا الموسم.
التحرير التدريجي لأسعار البنزين
بدأ مصرف لبنان عمليّة التحرير التدريجي لأسعار البنزين، والتي بدأت بالطلب من مستوردي هذه المادّة تأمين 15% من الدولارات المطلوبة للاستيراد من السوق الموازية، مقابل تأمين 85% من هذه الدولارات عبر منصّة صيرفة. أمّا يوم أمس الثلاثاء، فقرر المصرف المركزي السير خطوة إضافيّة بهذا الاتجاه، عبر تخفيض نسبة الدولارات التي تؤمّنها المنصّة إلى حدود 70%، ما يعني أن السوق الموازية باتت تتحمّل اليوم 30% من كلفة استيراد مادّة البنزين (راجع المدن). وهكذا، بدا من الواضح أن مصرف لبنان يتجه بثبات نحو التحرير الكلّي لأسعار البنزين، ولو بخطوات متدرّجة من هذا النوع، وصولّا إلى مرحلة الاعتماد على السوق الموازية لتأمين جميع الدولارات المطلوبة من قبل مستوردي مادّة البنزين، مقابل تسعير هذه المادّة حسب قيمة الدولار النقدي في السوق.
لم يكن من قبيل المصادفة أن يتزامن ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الموازية، مع اتخاذ مصرف لبنان هذه الخطوات خلال الأيام الماضية. فإحالة المستوردين إلى السوق الموازية لتأمين الدولارات عنت طبعًا زيادة الطلب على الدولار في هذه السوق، ورفع قيمة الدولار مقابل الليرة. وهكذا، وبدل التخطيط لكيفيّة تفعيل عمل المنصّة لتصبح قادرة على تأمين الدولارات للمستوردي جميع السلع، من خلال استقطاب حركة تداول السوق بالدولار بيعًا وشراءً، لجأ مصرف لبنان إلى سحب المنصّة تدريجيًّا من مهمّة تأمين الدولارات لإحدى أكثر المواد الأساسيّة حساسيّة، أي البنزين (راجع المدن).
ومن المتوقّع أن تؤدّي هذه الخطوة بالتحديد إلى إقحام السوق في دوّامة من التضخّم المفرط. فإحالة مستوردي البنزين إلى السوق الموازية سيرفع سعر الصرف بشكل مستمر، ما سيرفع بدوره كلفة البنزين عند تسعيره بالليرة في الأسواق، وهكذا دواليك (راجع المدن).
كلفة اللعب في السوق الموازية
خلال النصف الأوّل من شهر آب، لم تنخفض احتياطات مصرف لبنان بأكثر من 28 مليون دولار أميركي، بعد أن استنفد مصرف لبنان هذه الاحتياطات التي لامس مستواها عتبة 10 مليار دولار في منتصف شهر آب. لكن للتمكّن من التحفّظ على الاحتياطات المتبقية على هذا النحو، يبدو أن مصرف لبنان اندفع مؤخّرًا باتجاه اللعب في السوق الموازية بشكل مباشر، وشراء الدولارات المتأتية من زيارات المغتربين الصيفيّة. وهذا تحديدًا ما يظهر أثره في ارتفاع حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة بنحو ألفي مليار ليرة خلال النصف الأوّل من شهر آب، نتيجة النقد الذي تم ضخّه خلال عمليّة شراء الدولارات من السوق الموازية.
كما يظهر أثر هذه الخطوة في حجم الخسائر التي تراكمت خلال الفترة نفسها في ميزانيّة مصرف لبنان (النصف الأوّل من آب)، والتي قاربت قيمتها 1.6 مليار دولا. وهذه الخسائر نتجت تحديدًا عن شراء الدولارات بسعر السوق الموازية المرتفع، ومن ثم قيدها في الميزانيّة كموجودات –كما هي العادة- حسب سعر الصرف الرسمي.
في خلاصة الأمر، ونتيجة ضخ السيولة بالليرة بالسوق الموازية خلال الفترة الماضية، وامتصاص دولارات المغتربين بهذا الشكل، ارتفعت الضغوط على سعر صرف الليرة اللبنانيّة، ما ساهم بالمزيد من الانخفاض في قيمتها. وهذا تحديدًا ما يفسّر استمرار التدهور في سعر صرف الليرة في السوق الموازية، بالرغم من وجود تدفقات نقديّة وازنة إلى هذه السوق خلال موسم الاصطياف الراهن. مع الإشارة إلى أنّ كلفة هذه العمليّات ظهرت أيضًا على شكل تنامي كتلة الخسائر المتراكمة في ميزانيّة مصرف لبنان، والتي يُفترض أن يتم التعامل معها لاحقًاً.
التخبّط والبهلوانيّات
هكذا، كل ما سبق يشير إلى أن مصرف لبنان مستمر بالتعامل مع الجانب النقدي من الأزمة بمعالجات متخبّطة ومتضاربة. فبعد ضخ الدولار وامتصاص الليرة خلال الأشهر الماضية، انتقل المصرف المركزي اليوم إلى امتصاص دولارات المغتربين الزائرين، مقابل ضخ سيولة إضافية بالعملة المحليّة. وبعد إطلاق المنصّة لتكون وسيط لتداول الدولارات وتأمين لمستوردي جميع السلع من دون استثناء، بات مصرف لبنان يحيل المستوردين عنوةً إلى السوق الموازية، ما يطرح السؤال عن سبب وجود المنصّة في الوقت الراهن. وبنتيجة كل هذه الإجراءات المتعارضة والمتضاربة، يمكن فهم التدهور الحاصل اليوم في قيمة الليرة اللبنانيّة.
كل ما سبق هو نتيجة غياب سياسة النقديّة مدروسة، تتكامل مع معالجات أخرى لأزمتي النظام المصرفيّة وماليّة الدولة. وحين تغيب الرؤية العامّة للحل الشامل، يكون البديل توزيع الأضرار بإجرءات مؤقّتة غير هادفة وعبثية: فتارةً يتم ضبط سعر الصرف عبر ضخ الدولار، لكن على حساب تبديد ما تبقى من احتياطات. وتارةً يتم الحفاظ على الاحتياطات، عبر جمع دولارات السوق الموازية وشرائها كما يجري اليوم، لكن على حساب قيمة الليرة اللبنانيّة.
وفي الحالتين، يمكن القول أن ما يجري بات يشبه البهلوانيات النقديّة، أكثر مما يشبه السياسة النقديّة المفهومة.