أعدت لجنة حماية حقوق المودعين لدى نقابة المحامين في بيروت بتكليف من نقيب المحامين الأستاذ ناضر كسبار دراسة قانونية عن رأي صادر عن هيئة التشريع والإستشارات في وزارة العدل ( رقم 502/2023 بتاريخ 19/10/2023 ) بخصوص مسألة تحديد سعر الصرف القانوني الواجب التطبيق الصادر عن وزير الإتصالات بكتاب رقم 140/أ/و/22 تاريخ 28/9/2023، لتوضيح ما هو سعر الصرف الرسمي الواجب الإلتزام به بالنسبة لمشروع عقد المصالحة مع شركة Meatel، نظراً لعدم وضوح سعر الصرف الرسمي المذكور وتعدده بما في ذلك سعر صيرفة المدارة من مصرف لبنان. وجاء في القراءة القانونية والموضوعية للجنة حماية حقوق المودعين في نقابة المحامين ما يلي:
دقة ومهنية أولاً: 5 نقاط متوافقة مع الأساسيات
وقد استعرض الرأي المذكور، بدقة ومهنية مشهود لهما وموضع تقدير، جميع مراحل وتفاصيل تحديد سعر الصرف الواجب التطبيق من خلال المسار القانوني والمحطات التشريعية المتعاقبة، بدءاً مما نص عليه قانون النقد والتسليف الصادر سنة 1963 ولا سيما في مادتيه 2 و229 مروراً بتشريعات متفرقة، عامة وخاصة، سبقت الحرب أو تخللتها أو تبعتها. وكانت جميعها برأي الهيئة متوافقة على الأساسيات التالية:
(1) إن تحديد سعر الصرف يدخل في النطاق التشريعي، إذ يعود لمجلس النواب أو من يفوضه تحديد سعر الصرف واجب التطبيق؛
(2) إنه متاح لوزير المالية، ولقد سبق له، تحديد سعر الصرف القانوني بالإستناد إلى تفويض تشريعي كما جرى ذكره؛
(3) إن معيار تحديد السعر هو أن يكون الأقرب إلى سعر السوق الحرّة؛
(4) إن السعر الإنتقالي القانوني هو واجب التطبيق لدى إحتساب الضرائب والرسوم؛
(5) إن مساهمة مصرف لبنان في تحديد سعر الصرف محصورة بتدخله الفعلي مشترياً أو بائعاً للعملات الأجنبية، ولا يتعدَى ذلك بأي حال من الأحوال إلى إصداره قرارات لتحديد أسعار الصرف سواء عن مجلسه المركزي أو عن حاكم المصرف، وذلك لغياب التفويض التشريعي بهذا الموضوع، ولكون مهمة المصرف محصورة بالتدخل في السوق وفق ما تنص عليه المادة 75 من قانون النقد والتسليف.
تحاليل وتفسيرات وتعليلات بعيدة عن الموضوعية والقانون
إلا أنه وبالرغم مما تقدم وبشكل مخالف للمنطق والمنهجية المتبعة في بداية الرأي، عمدت الهيئة بصورة مفاجئة في سياق التقييم اللاحق إلى إعتماد تحاليل وتفسيرات لنية المشرّع وتعليلات لذلك بعيدة كل البعد عن الموضوعية والقانون. لتخلص إلى إعتبار أنه «في حالات يصدر فيها مصرف لبنان عدة أسعار صرف (بغض النظر عن قانونية هذا الإصدار) يقتضي إعتماد سعر الصرف الأعلى بين أسعار الصرف»؛ مما يبرر (بالنسبة لها) «إستبعاد سعر الصرف الرسمي وهو 15,000 ل.ل مقابل الدولار الأميركي، الذي حلّ مكان الـ1507,5 المعتمد منذ 1997، وذلك تماشياً مع فلسفة قانون الموازنة العامة الهادفة إلى زيادة موارد الدولة، وبالتالي إعتماد سعر منصة صيرفة وهو اليوم 85,500 ليرة لبنانية… وفقاً لآخر سعر صرف صدر على منصة صيرفة بتاريخ 31/7/2023 قبل وقف العمل بها». وقد برر الرأي هذا المنحى ودعَمه من خلال نصوص تشريعية وتنظيمية حديثة هي في الأساس مخالفة للمنحى القانوني المعتمد وقائمة على تشريع ضرورة وإدارة أزمة؛ سواء:
إستناد إلى نصوص وتشريعات حديثة مخالفة للمنحى القانوني
أ- لجهة قانون الدولار الطالبي (القانون رقم 193 تاريخ 16/10/2019 المعدّل بالقانون رقم 283 تاريخ 12/4/2022) أو القانون رقم 219 تاريخ 8/4/2021 وتعديلاته الخاص بالإتفاقية الموقعة مع البنك الدولي لدعم شبكة الأمان الإجتماعية للإستجابة لجائحة كوفيد 19 والأزمة الإقتصادية في لبنان، أو المادة 35 من قانون الموازنة النافذ حكماً رقم 6 تاريخ 5/3/2020، وهي قوانين خاصة لهدف معين ومحصور موضوعها؛ شأنها شأن القوانين الخاصة التي أشار إليها الرأي الإستشاري والصادرة خلال الحرب اللبنانية أو بعيدها لمعالجة مواضيع معينة وطارئة كرواتب الدبلوماسيين العاملين في البعثات اللبنانية في الخارج (القانون رقم 7 تاريخ 10/8/1985) أو بالنسبة لكيفية إحتساب قيمة البضائع الواجب التصريح بها للجمارك (المراسيم رقم 251512/91 و2291/92 و2515/92)؛ وبالتالي، لا يمكن الإعتماد عليها لبناء قاعدة عامة شاملة.
ب- أو لجهة مجموعة التعاميم والقرارات الصادرة عن مصرف لبنان منذ إندلاع الأزمة المالية الراهنة والمتجاوزة لحدّ السلطة كما والمخالفة لقانون النقد والتسليف. ونذكر منها بالأخص التعاميم الصادرة بدءاً من تاريخ 9/4/2020 ولا سيما التعميم الأساسي رقم 151 تاريخ 21/4/2020 الذي تم الطعن به وأوقف تنفيذه مجلس شورى الدولة لمخالفته أحكام القانون وتعارضه مع أحكام تمس بالنظام المالي الحالي. دون إغفال العديد من القرارات القضائية التي قضت بعدم سريان هذه التعاميم على المحاكم. ناهيك عن إعتبار هيئة التشريع والإستشارات في رأيها الآنف الذكر «السوق التي تمثلها منصة صيرفة والآلية التي تعتمدها تؤمنان الشفافية المطلوبة غير المتوفرة في التطبيقات الإلكترونية المنتشرة في السوق السوداء». وذلك، بخلاف كل ما قيل ويقال عن هذه المنصة وإجماع كل الأطراف المحلية والخارجية المختصة على إعتبارها غير شفافة وغير ذات جدوى ومنهم الحاكمية نفسها التي أوقفتها كما أسلفنا يوم تغيير شخص الحاكم.
ت - وأخيراً لجهة التعويل على المادة 87 من قانون الموازنة العامة للعام 2022 النافذ حكماً رقم 10 تاريخ 15/11/2022 بدلاً من الإعتماد على المادة المخصوصة رقم 35 من القانون عينه التي تتطابق مع أحكام قانون النقد والتسليف والتشريعات الأخرى التي لحظها وإستعرضها الرأي الإستشاري في القسم الأول من بحثه. بالفعل، وبخلاف المادة 87 التي تفرض مبدأ التسديد بالعملة الوطنية وتجيز بعض الإستثناءات للتسديد بالعملة الأجنبية، فإن المادة 35 الآنفة الذكر تعدّل الفقرة الأولى من المادة 63 من المرسوم الاشتراعي رقم 144 تاريخ 12/6/1959 وتعديلاته (قانون ضريبة الدخل) وذلك، لجهة «إلزام رب العمل بإقتطاع الضريبة من الرواتب والأجور التي يدفعها إلى الأجير وأن يؤدي المبالغ المقتطعة إلى الخزينة بالليرة اللبنانية بالقيمة الفعلية التي تحدد بموجب قرار يصدر عن وزارة المالية ومصرف لبنان (وإلخ)». مع العلم بأنه وتطبيقاً لما تقدم فقد صدر عن وزير المالية وحاكم مصرف لبنان بتاريخ 23/11/2022 القرار رقم 687/1 «الذي حدد القيمة الفعلية بالليرة اللبنانية للرواتب والأجور التي تستحق على أرباب العمل لصالح العاملين لديهم، كلياً أو جزئياً، بالدولار الأميركي أو بأي عملة أجنبية أخرى اعتباراً من تاريخ نشر الموازنة العامة للعام 2022، على أساس سعر منصة صيرفة في حال كانت الرواتب والأجور مدفوعة نقداً أو السعر المحدد في التعميم رقم 151 تاريخ 21/4/2021 وتعديلاته الصادر عن مصرف لبنان في حال كانت الرواتب والأجور مدفوعة بموجب شيك أو تحويل مصرفي داخل لبنان». وقد جرى الطعن بهذا القرار كما وبالقرار الملازم له رقم 686/1 بحجة أنهما إعتمدا سعر صرف وهمي وغير شرعي وغير حقيقي يتداول به في الممارسات أو المنصات غير الرسمية وكون المشرع لم يشرع ويقونن سعر صيرفة أو أي تعميم صادر عن حاكم مصرف لبنان، كما أن عبارة «القيمة الفعلية» لا يمكن أن تعني وتفيد إطلاقاً اعتماد أسعار غير رسمية أو غير شرعية وصادرة دون مراعاة الأصول والإجراءات التي يفرضها القانون. وتجاه ذلك كما والإنتقادات العديدة الموجهة من قبل كل الأطراف المختصة تم التراجع عن هذين القرارين واستبدالهما بالقرارين رقم 2/1 و3/1 تاريخ 9/1/2023 اللذين إعتمدا سعر صرف جديد ثابت رسمي وقدره /15,000/ل.ل للدولار الأميركي الواحد لكل ما هو مسدد نقداً و/8,000/ل.ل لكل ما هو مدفوع بموجب شيك أو تحويل مصرفي داخل لبنان. وبنتيجة ذلك، إعتمد مصرف لبنان على منصته منذ ذلك الحين كما وبالنسبة لتعاميمه كالتعميم رقم 151 سعر صرف رسمي جديد وقدره /15,000/ل.ل. ولا يسعنا في هذا السياق إلا أن نشير إلى انه ثمة أمر مذهل ومدهش أن يتغاضى أو أن يتناسى الرأي الإستشاري لهيئة التشريع والإستشارات هذا الفصل من التشريع والتنظيم ذي الأهمية والصلة بالموضوع المطلوب إبداء الرأي بشأنه، ويذكر بالمقابل ويعتمد للتبرير والتعليل القرار الوزاري رقم 686/1 تاريخ 23/11/2023 الذي جرى الرجوع عنه وإلغاؤه وإستبداله بالقرار رقم 2/1 تاريخ 9/1/2023.
تنبيه من مغبة ومخاطر إعتماد الرأي الإستشاري
على ضوء ما تقدم لا يسعنا إلا أن ننبه إلى مغبة تطبيق ومخاطر إعتماد الرأي الإستشاري رقم 502/2023 لهيئة التشريع والإستشارات في وزارة العدل بالنسبة للموضوع المطروح أمامها كما والمواضيع الأخرى المشابهة أو ذات الصلة إذا ما تم تكريسه «كإجتهاد» وعرف يعوّل عليهما. وما قد يترتب بنتيجته من تداعيات لجهة إعتماد سعر صيرفة كسعر صرف قانوني واجب التطبيق، ومنها على سبيل البيان لا الحصر:
1 – إضفاء شرعية قانونية على معظم التعاميم والقرارات المخالفة الصادرة عن مصرف لبنان منذ إندلاع الأزمة المالية الراهنة، وأهمها التعميم الأساسي رقم 151 تاريخ 21/4/2020، التي تسببت بتذويب الودائع المحتجزة وهضم حقوق المودعين والعملاء إنتهاكاً للأعراف وللدستور سواء لجهة المسّ بحق الملكية الخاصة (المادة 15) أو بمبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين من دون تمايز أو تفضيل (الفقرة ج من المقدمة والمادة 7).
2 – إضفاء شرعية وإبراء ذمة نهائي وشامل لمنصة صيرفة وكل ما نتج عنها ومنها ومعها من مخالفات وتجاوزات وإنتهاكات للقوانين والحقوق.
3 – السماح بإحتساب الضرائب والرسوم كافةً، وسيما ضريبة الدخل للأفراد والشركات، على أساس منصة «صيرفة» وذلك بغياب أي محاكاة إقتصادية أو دراسة أثر الوقع الإقتصادي (Impact economic study) أو إحصائيات موثوقة لتقدير المترتبات والنتائج على المدى القريب والمنظور.
4 – تكريس وتشجيع المنحى غير الجدي وغير الاصولي وغير العلمي وغير المحترف لصياغة القوانين وللتشريع السائد منذ حين، والسماح باعتماد نصوص وتدابير غامضة وملتبسة ومضللة وفق الحاجة والظروف.
خاتمة
وعليه، وبكل إحترام وأسف، فإننا لا نؤيد ولا نشارك رأي هيئة التشريع والإستشارات في وزارة العدل الصادر تحت رقم 502/2023 تاريخ 19/10/2023 بالنسبة لما خلصت إليه لجهة تحديد سعر الصرف الرسمي على أساس سعر منصة صيرفة، نظراً لما قد يحمله ويستتبعه من تداعيات خطيرة وذريعة جاهزة لكل من لهم «غاية في نفس يعقوب» لتحقيق مآربهم البعيدة كل البعد عن الحق والإنصاف والقانون والمصلحة والوطنية.