مبدئياً، يُفترض أن يكون الاسبوع الحالي حاسماً بالنسبة الى البتّ في مشروع الموازنة، الذي تناقشه لجنة المال النيابية، بل انّ البعض يعتبره «اسبوع الآلام»، حيث سينتهي هامش المناورة امام بعض النواب والوزراء، وسيكون على اللجنة ان تقول كلمتها في «البنود المتفجّرة» التي تمّ تعليقها الى حين، نظراً الى حساسيتها الماليّة والضريبية.
منذ اليوم الاول للنقاشات، هناك بين النواب وفي طليعتهم رئيس اللجنة ابراهيم كنعان، من شعر بأنّ المهمة لن تكون سهلة، ليس فقط بسبب الألغام الكامنة في مشروع الموازنة، بل لأنّ البعض من خارج لجنة المال باشر سريعاً في التصويب عليها، مستخدماً أسلحة مختلفة العيارات، بهدف تقييدها ووضعها تحت الضغط.
من هنا، كان العمل الاول امام اللجنة تثبيت مشروعيتها وحماية صلاحيتها في إخضاع مشروع الموازنة الى الرقابة والتمحيص الدقيقين، بعيداً من «الحرب النفسية» التي راح يشنّها المستعجلون أو المتضرّرون من أي تعديلات مُحتملة.
ومع بروز هذه «العصبية البرلمانيّة» دفاعاً عن «كرامة المجلس»، إرتفع عدد النواب المشاركين في المداولات بنحو لافت، إلى درجة انّ الحضور كان أقرب الى هيئة عامة مصغّرة. حتى الرئيس سعد الحريري، الذي وصف في البداية ما يجري بـ»المسرحية»، عاد وشارك في إحدى جلسات اللجنة، ومن على مقاعد النواب تحديداً، سعياً الى التخفيف من وطأة الموقف الذي صدر عنه.
تحدٍ آخر، وجدت اللجنة نفسها أمامه، وهو ان تنجز في أقل من شهر التدقيق في 27 ألف مليار ليرة و99 مادة قانونية تتضمنها الموازنة، «فيما تأخرت الحكومة في إحالتها نحو 9 أشهر عن موعدها الدستوري، إضافة الى انّها استهلكت 19 جلسة وزارية لإقرارها، ثم أصبحت فجأة على عجلة من أمرها حين أتى دورنا في الرقابة، مستكثرة علينا ان نأخذ حداً أدنى من الوقت لدرس المشروع»، على ما يقول مصدر نيابي، ملاحظاً انّ لجنة المال هي في وضع الساعي الى «هبوط اضطراري» آمن، بعد التخلّص من «الحمولة الزائدة» التي تُنهك الموازنة.
ومن المفارقات التي اصطدمت بها اللجنة ايضاً، ذاك التشظي الذي ظهر عليه الموقف الحكومي، على مرأى ومسمع جميع الحاضرين في القاعة المزدحمة، بدلاً من أن يكون موّحداً ومتماسكاً. إذ انّ النواب كانوا يُفاجأون بتباينات علنية بين الوزراء المعنيين حيال عدد من البنود المالية، ما أوحى أنّ إقرار الموازنة في مجلس الوزراء لم يكن مستنداً الى قاعدة صلبة واقتناع عميق، بل بدا انّ هدفه المُضمَر الهروب الى الإمام ورمي الكرة في احضان مجلس النواب، وبالتالي تحويله ساحة لتصفية الحسابات بين بعض الوزراء وكذلك تحميله مسؤولية أي تعديلات تطرأ.
إزاء هذا الإنقسام الوزاري حول بنود حيوية، طلب كنعان من الفريق الحكومي المشارك في مداولات لجنة المال ان يسوّي خلافاته، ويعود الى اللجنة بمقاربة موحدة، حتى يُبنى على الشيء مقتضاه.
وما استفز بعض النواب أيضاً، هو إطلاق إشارات حكومية تعكس القلق من احتمال ان تعبث لجنة المال بأرقام الموازنة لجهة خفض نسبة الإيرادات ورفع معدل العجز المتوقع، «الأمر الذي ينطوي على خفة غير مسبوقة وتحوير فاضح للحقائق»، وفق ما تؤكّد شخصية نيابية بارزة، مشيرة الى انّ من يحق له أن يقلق حقّاً هو مجلس النواب، لأنّ الحكومات المتعاقبة هي التي راكمت الدين ورفعت العجز وزادت الهدر وخالفت كل فقرة وفاصلة في الدستور.
ومع تكريس «شرعية» الدور الرقابي «المستقل» واحتواء الهجوم عليه، انتقلت لجنة المال الى معركة أصعب ضد «الشياطين» المختبئة في تفاصيل الموازنة، حيث طرقت أبواب «المحميات»، كما سمّاها النائب جورج عدوان، الأمر الذي أزعج، على ما يبدو، رعاتها والمستفيدين منها.
مؤسسات عامة وصناديق رسمية تمّ تشريحها للتدقيق في مبررات تخصيصها سنوياً بآلاف مليارات الليرات، والتي يُنفق جزء منها بطريقة عشوائية لا تخلو من الهدر، في حين يجري التسلّل الى جيوب الفقراء وذوي الدخل المحدود لتحميلهم أعباء المساهمة في خفض عجز الدولة! أما المؤسسات والصناديق المعنية بهذا الإنفاق «المتضخم» في دولة «مكسورة»، فهي تتوزع على كل مراكز النفوذ الطائفية والمذهبية.
وقد أقرّت لجنة المال مادة في مشروع موازنة 2019 تتعلّق بإلغاء الموازنات الملحقة بدءاً من عام 2021، مع شمول هذا الإلغاء كل المؤسسات التي تدير مرافق عامة وتُحصّل اموالًا عامة. وقضى التعديل بتحويل الأرباح المحققة من هذه المؤسسات الى خزينة الدولة، بحيث تصبح كل الموازنات الملحقة جزءاً من أموال الخزينة.
ويؤكّد كنعان لـ»الجمهورية»، انّه ينبغي ان يتمّ هذا الاسبوع حسم البنود المُعلقة، خصوصاً تلك المتصلة بالمتقاعدين العسكريين والضريبة على الاستيراد، موضحاً أنّه ما لم تطرأ مفاجآت، فانّ اللجنة ستعقد آخر جلسة لها في 1 تموز المقبل، لتكون بذلك قد أتمّت مهمتها خلال فترة قياسية.
ويشدّد كنعان، على «انّ قرارنا هو ان «نقتحم» خلال الاجتماعات المقبلة كل الاماكن الدسمة والمحمية في الدولة، بغية تحقيق مزيد من الوفر وإيجاد موارد بديلة عن تلك التي قد تكون عرضة للإلغاء، لكونها تصيب طبقات شعبية وحقوقاً مكتسبة»، مشدداً على انّ الاتجاه السائد هو انّ أي «إيراد حكومي» يسقط، يجب ان نقترح محله ما يعوّضه.
ويوضح كنعان، انّ النواب قرّروا ان يتحمّلوا مسؤولية مساعدة الحكومة في إيجاد البدائل، تحسساً منهم بدقة الوضع الاقتصادي والمالي، مشيداً بتفهّم الزملاء لسعيه الى عدم إخضاع البنود التي تمّ تعليقها الى التصويت، «انطلاقاً من شعورهم بضرورة تأمين بدائل عنها قبل إسقاطها، علماً انّ مطلب التصويت عليها هو نظامي ودستوري».
ويشير الى أنّ وزير المال علي حسن خليل لا يشكّل حجر عثرة امام طروحات اللجنة، بل هو حريص على أن نخرج بنتيجة إيجابية، وبالتالي فانّه يتجاوب مع كل اقتراح أو تعديل يصبّ في خانة تحصين الموازنة وتصويبها.
ويعتبر انّ اللجنة بذلت ولا تزال جهداً استثنائياً وجباراً، ويكاد يكون غير مسبوق، لمعالجة مكامن الخلل في مشروع الموازنة والارتقاء بها الى مستوى التحدّي الذي نواجهه، آملاً في ان تتمدّد الروحية التي تسود نقاشاتها الى الهيئة العامة لاحقاً.