بعدما انتظر شركاء البنك المركزي وحاكمه 4 سنوات لإلقاء اللوم عليه وعلى ممارساته المخالفة، وتحوّل تحريض المودعين على الدولة الى تحريض من نوع آخر. استفاق المصرفيون مؤخراً وسلكوا مساراً ادارياً جديداً للمطالبة بمستحقات مصرف لبنان لدى الدولة، مؤكدين انه إذا تأمّنت، تأمّنت ودائع زبائنهم كاملة!
وتقدم 11 مصرفاً من وزارة المالية بـ»مذكرة ربط نزاع» باعتبار هذه المصارف دائنة لمصرف لبنان ومتضرّرة من عدم مطالبته الدولة بأن تسدّد له المبالغ التي استدانتها منه، وعدم مطالبته بأن تغطي الدولة كل الخسائر التي تظهر في ميزانيته. وأكدت المصارف أنّ المذكّرة هي لإلزام الدولة بتنفيذ موجباتها القانونية والتعاقدية تجاه مصرف لبنان عن طريق التسديد الفوري للمبالغ المستحقة في ذمتها تجاهه، والتي حددتها المصارف بـ 16.6 مليار دولار.
الإستناد إلى تقارير دولية
وفيما استندت المصارف الـ11 في مذكرتها، على تقارير دولية تدين ممارسات مصرف لبنان، لا يمكن إلا التساؤل حول دورها في تمويله وفي تمويل عجز الدولة من خلال اكتتابها في سندات الخزينة. هل كانت غافلة عن وضع الدولة المالي المتعثر طوال السنوات الماضية وعن حاجتها المتواصلة للاستدانة لتمويل عجزها؟ هل كانت بحاجة للتقارير الدولية الصادرة مؤخراً لتكشف لها ان مصرف لبنان قام بممارسات مخالفة وباعداد ميزانيات مصطنعة؟ لماذا واظبت على توظيف ودائعها في مصرف لبنان وفي تمويل الدولة رغم علمها المسبق وتواطئها الباطني مع البنك المركزي، متجاهلة التقارير السابقة الدولية التي حذرت مراراً وتكراراً من مخاطر الاستمرار في تمويل الدولة والتي خفضت تصنيفها السيادي الى أدنى الحدود والتي كشفت عن ممارسات مصرف لبنان ووضعه المالي المتعثر قبل اندلاع الازمة بسنوات؟
بعض الأسئلة
بالإضافة الى الـ16,6 مليار دولار التي لم تسجل ديناً على الدولة سوى مؤخراً ولم يعترف بها بعد أيّ من وزراء المالية المتعاقبين منذ 2007، تطالب المصارف الـ11 بان تسدد الدولة حوالى 51 ملياراً و302 مليون دولار، لتغطية خسائر مصرف لبنان الظاهرة في ميزانيته لسنة 2020 تطبيقاً لقانون النقد والتسليف. ورغم ان الاطراف الثلاثة، الدولة، مصرف لبنان والمصارف تتحمّل مسؤولية هدر أموال المودعين، هل يمكن للدولة اللبنانية بأصولها وثرواتها وايراداتها ان تسدد مبلغاً تقدّر قيمته الاجمالية بحوالى 70 مليار دولار للمودعين؟
وهل في حال تم الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على برنامج إنقاذ، سيقبل الاخير ان تُستخدم أصول الدول لإطفاء الخسائر أي ردّ الودائع، وهو الذي يضع شرطاً أساسياً استدامة الدين العام؟ هل سيقبل حاملو سندات اليوروبوندز أن يتم الاقتطاع من قيمتها في حين ان الدولة أخذت على عاتقها تسديد كامل الودائع؟
سيناريو سوريالي
رغم ان الجميع يعي ان هذا السيناريو «سوريالي»، فان طرحه لا يزال متداولاً منذ اندلاع الازمة تارة لاسقاط أية مقترحات مقابلة، وطوراً لحرف النظر عن أية معالجات مطلوبة.
إلا انه سبق وذكر نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي ان بيع كافة أصول الدولة لا يدرّ ربع قيمة خسائر القطاع المصرفي او قيمة الودائع، كون معظمها بحالة مهترئة وبحاجة للاستثمار فيها بمليارات الدولارات من اجل إنعاشها من جديد في حال الاتكال على ايرادات ادارة تلك الاصول.
ان كل السيناريوات تؤكد استحالة اعادة تكوين الودائع باستخدام اصول الدولة وايرادات هذه الأصول. وتخاض تحت عنوان «منع شطب الودائع» معارك تستفيد منها المصارف لتعطيل الحلول العادلة. علماً ان رد الودائع المشروعة لأصحابها أمر مفروغ منه يبدأ بتحميل البنوك المسؤولية الأولى… ثم الدولة، مثلما انه بعد اجراء محاسبة وتحديد المسؤولين عن الازمة ومعاقبتهم… يمكن الحديث عن تحمل الدولة مسؤولياتها.
شمس الدين: أحاديث بيع موجودات الدولة لسداد الودائع لا يتعدّى التنظير
أما الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين فقد اوضح ان التعريف القانوني لموجودات الدولة هو موجوداتها العقارية، اما المؤسسات العامة مثل طيران الشرق الاوسط والكازينو وغيرها فهي مؤسسات عامة مستقلّة ولا تعتبر من ضمن موجودات الدولة. وشرح شمس الدين لـ»نداء الوطن» ان الحديث او اقتراح بيع موجودات الدولة لسداد الودائع لا يتعدّى «التنظير»، «لأننا لغاية اليوم لا نستطيع تقدير قيمة اصولها العقارية كون جزءاً كبيراً منها لا يُسمح بتخمينه، موضحاً ان الكلام عن امتلاك الدولة 30 أو 40 ألف عقار يحتاج الى تخصيص لجنة لاستكشاف تلك العقارات ثم مسحها من اجل تخمينها وبالتالي تقدير قيمتها الاجمالية، «لان مجمل الدراسات التي قدّرت قيمة اصول الدولة العقارية غير دقيقة، وهناك تفاوت كبير في قيمة التقديرات تتراوح بين 20 ملياراً وصولاً الى 40 مليار دولار!»
راشد: دعاوى في الخارج لمنع شطب الودائع
في هذا الاطار، أوضح المسؤول السابق في صندوق النقد الدولي منير راشد ان الهدف الاساس وأهمية المذكرة التي ارسلتها المصارف الى وزارة المالية هي التوصل الى تعطيل مخطط «شطب الودائع» الذي يتضمنه اقتراح قانون الانتظام المالي واقتراح قانون اصلاح المصارف. لافتاً الى ان اقتراح شطب الودائع الجديد اثار سلسلة من الدعاوى القضائية في الخارج في الاسبوع الماضي، من قبل اصحاب ودائع غير المقيمين (25 مليار دولار).
وشدد راشد لـ»نداء الوطن» على ان السعي يجب ان يكون للحفاظ على الودائع وعدم شطبها وليس استردادها كاملة، بدليل انه لا يوجد قطاع مصرفي في العالم قادر على سداد مجمل ودائعه دفعة واحدة، وبالتالي فإن الحرص على عدم شطبها يجب ان يكون اولوية.
إدراج في البورصة
وشرح ان خصخصة ادارة مؤسسات القطاع العام (طيران الشرق الاوسط، الكهرباء، الهاتف الثابت والمنقول، الكازينو، المياه، الموانئ الرئيسية من خلال عقود تأجيرية)، سيجعلها تدرّ ارباحاً خلال فترة وجيزة بعد تحسّن ادائها الاداري ( من سنة الى 3 سنوات). ومن الممكن بعدها تحويل هذه المؤسسات الى شركات مساهمة تعرض اسهمها في بورصة بيروت مع وضع سقوف للملكية الفردية والمؤسساتية كي لا تتحوّل الى شركات احتكارية. مشيراً الى ان انشاء شركات مساهمة لمؤسسات القطاع العام سيتيح الفرص لاصحاب الودائع ان يقوموا بتنويع محافظهم الاستثمارية، من خلال ولوجهم الى السوق المالي وحيازة ما يرغبون من الاسهم. مما سيكون خطوة نحو استعادة المودع للقيمة الحقيقية لودائعه، على ان يجوز اعطاء الاولوية لفترة زمنية محددة لحاملي الودائع المصرفية لشراء هذه الاسهم.
إسترداد 30 ملياراً
وأكد راشد ان خصخصة المؤسسات العامة وتحويلها الى شركات مساهمة في البورصة ممكن ان يعيد حوالى 30 مليار دولار من الودائع على شكل اسهم، ويدرّ ارباحاً بالمليارات قد تصل الى 1,5 مليار دولار من ادارة الهاتف المنقول سنوياً، 4 مليارات دولار من شركة طيران الشرق الاوسط، 10 مليارات دولار من تأجير الموانئ لمدّة زمنية محددة…
ليس شرطاً إلزامياً
ولفت الى ان الحدّ من استخدام اصول الدولة لردّ الودائع ليس شرطاً الزامياً في قانون صندوق النقد الدولي، بل ان شرطه الاساسي هو استدامة الدين العام. وبما ان الصندوق يعتبر ودائع المصارف لدى مصرف لبنان ديناً على الدولة، فان نسبة الدين العام الى الناتج المحلي تبلغ وفق حساباته 500%، ويقترح خفضها الى 110% عبر إلغاء تلك الودائع (اي اموال المودعين) من اجل الحفاظ على استدامة الدين العام. معتبراً ان الاتّكال على الاقتراض من صندوق النقد من اجل الاصلاح لن يجدي نفعاً، بل يجب السير بالاصلاح لاستعادة ثقة المجتمع الدولي واستقطاب الاستثمارات الخاصة.
خبير دولي: مطالب مصارف لبنان تخالف المعايير المحاسبية الدولية
من جهته، سأل خبير اقتصادي دولي ردّاً على اقتراح صندوق ادارة اصول الدولة من أجل ردّ الودائع، «كيف يمكن للبنوك التي لا تعرف متى يمكنها الحصول على اصولها من الحكومة او من مصرف لبنان، ان تعاود القيام بدورها الفعلي وان تقوم باقراض القطاع الخاص وتمويل الاقتصاد؟». ولفت الى ان التعويل على استرداد ودائع المصارف لدى مصرف لبنان عاجلاً أم آجلاً ومع مرور الوقت، هو امر مخالف للمعايير المحاسبية الدولية لعمل المصارف وللمعايير الاساسية الاقتصادية.
وأوضح انه حتّى لو تم انشاء صندوق لادارة اصول الدولة تعود ايراداته لاعادة تكوين الودائع، فان اقتطاع نسبة ملحوظة من ودائع الافراد الذين استفادوا من الفوائد العالية وحققوا ارباحاً خيالية منذ العام 1992 لغاية 2019، أمر لا بدّ منه ويجب تطبيقه لكي لا يتم تسخير أصول الدولة (التي هي حق لكافة الشعب اللبناني) لصالح كبار المودعين.
هناك إستحالة
لكنّه أكد في المقابل استحالة ان تؤمن اصول الدولة وايرادات ادارة اصولها، قيمة الودائع او تسدّ الفجوة المالية في القطاع المصرفي البالغة حوالى 76 مليار دولار، سائلاً: هل يمكن لاقتصاد حجمه 20 مليار دولار ان تدرّ اصوله الحكومية 70 مليار دولار؟ وأوضح ان اللجوء اليوم الى خصخصة أصول الدولة يعني بيعها بأبخس الاسعار ما يعني توريث اصول الدولة لرؤوس المافيات في لبنان وافرادها الفاسدين.
محاولة نصب على الدولة
أما الحديث عن خصخصة ادارة اصول الدولة، فرأى الخبير الدولي انه أمر ممكن لكنّه من غير المنطقي التعويل عليه لاعادة تكوين ما قيمته 70 مليار دولار من الودائع، مشدداً على ضرورة الاقتطاع (haircut ) من الودائع بعد تصنيفها حيث انه خلال مجمل الازمات المصرفية في العالم، لم تتم عميلة الاصلاح سوى عبر فرض اقتطاعات من كبار المودعين الذين حققوا أرباحاً من الممارسات المخالفة التي ارتكبت مصرفياً.
وأشار ان قيمة اصول الدولة لا يمكن ان تتحسّن بشكل ملحوظ إلا بعد تطبيق برنامج اصلاح جدّي، إن مع صندوق النقد الدولي او من دونه. مشدداً على ان اي مستثمر في العالم لن يكون مستعدّاً للاستثمار ولو بدولار واحد في لبنان إن لم يكن على يقين بان الاقتصاد قائم على أسس متينة ومستدامة. وختم الخبير الدولي مؤكداً ان ما يقترحه المعنيّون اليوم هو محاولة نصب لأصول الدولة!