قد تكون تداعيات الحرب في أوكرانيا مُقلقة للاقتصاد العالمي، ومُرعبة للاقتصاديات الهشّة والضعيفة، كما هي حال الاقتصاد اللبناني. لكن في الموازاة، واذا لم تُعطّل السياسة الاقتصاد، كما جرت العادة حتى الآن، هناك بوادر أمل جديدة أوجدتها هذه الحرب لدول حوض المتوسط، وعلى رأسها لبنان.
ركّز الإعلام اللبناني في الفترة الأخيرة على خطورة ما اعتبره حدثاً مقلقاً يتعلق ببدء اسرائيل التنقيب عن الغاز في حقل “كاريش” المتنازع عليه مع لبنان. هذا الخبر على خطورته، ينبغي ألّا يخطف الأضواء من حدث آخر مرّ مرور الكرام، مع انّه غير عادي، ويؤشّر لمستجدات ينبغي ان تتابعها السلطات في بيروت، للبناء عليها في تحديد سياسة تسريع رسم الحدود البحرية مع اسرائيل، للإفادة من الفرصة الذهبية العائدة، والتي أوجدتها تداعيات الحرب في اوكرانيا.
في 11 نيسان الماضي، اجتمع وزراء الطاقة في كل من اليونان وقبرص واسرائيل، وكان الطبق الرئيسي على طاولة المباحثات، العرض الذي قدّمته شركة “انيرجين” Energean لإقامة منصة عائمة لتسييل الغاز في قبرص، وتحديداً في مدينة فاسيليكوس Vasilikos. يقوم المشروع على مبدأ استقدام منصّة عائمة لترسو في المياه الاقليمية القبرصية، حيث يتمّ تأمين الدعم اللوجستي لها من البرّ. وستتولّى المنصّة معالجة كميات الغاز التي ستضخّها شركة “انيرجين” من احتياطها المُكوّن من استخراج الغاز من الآبار الاسرائيلية. وكانت الشركة اليونانية قد اشترت حقوق استخراج الغاز من حقلي “كاريش” و”تانين” من شركة “ديليك” Delek الاسرائيلية في العام 2016، وهي تملك حالياً حوالى 100 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي. كما انّها تملّكت حقوق استخراج الغاز من اربعة بلوكات تابعة لحقل تامار، وهي تتوقع ان تحصل على احتياطي اضافي من الغاز يصل الى 110 مليار متر مكعب. وسوف تظهر نتائج التنقيب في الفصل الثاني من العام الجاري، أي في غضون شهر أو شهرين من الآن.
هذا المشروع لتسييل الغاز في قبرص ومن ثم شحنه الى اوروبا والى أمكنة اخرى حول العالم، جرى بحثه قبل حوالى 8 سنوات، لكن صُرف النظر عنه بسبب عدم التثبُّت من الجدوى الاقتصادية. اليوم، وبعد تداعيات الحرب في اوكرانيا، واتجاه اوروبا نحو التخلّي التدريجي عن الغاز الروسي، اصبح المشروع مجدياً اقتصادياً، حتى في حال تراجعت اسعار الغاز الى ما كانت عليه قبل اندلاع الحرب.
لا شك في أنّ للبنان علاقة مباشرة بهذه التطورات، التي تعني ببساطة انّ مشروع تسييل الغاز وتصديره بحراً اصبح مجدياً. لكن الإفادة من هذه الفرصة تحتّم إنجاز مجموعة خطوات اساسية، من أهمها:
اولاً- حسم الجدل السياسي العقيم في ملف ترسيم الحدود واعتماد استراتيجية واضحة لإتمام هذا الملف في أقصى سرعة ممكنة، من دون ان يعني ذلك التحريض على التخلّي عن حقوق لبنان الكاملة. لكن ينبغي ايضاً احتساب الخسائر الناجمة عن عامل الوقت، واتخاذ القرار المناسب، والذي يؤمّن مكاسب اضافية لدى المفاضلة بين الكيلومترات والوقت المهدور.
ثانياً- إجراء دراسة حول جدوى وقدرة لبنان على الاتفاق مع شركات عالمية لإقامة منصة تسييل عائمة، او الاتجاه نحو التعاون مع قبرص في حال تبيّن انّ المنصة التي تنوي “انيرجين” إقامتها في الجزيرة قادرة على استيعاب الغاز اللبناني. أما القول انّ الغاز اللبناني لا يفترض ان يمرّ في منصّة تسييل يمرّ فيها الغاز الاسرائيلي، فمسألة لا علاقة لها بمبادئ “تنظيم” العداء بين الدول، وهي لا تعني منطقياً على الأقل، إختراق جدار المقاطعة مع اسرائيل على اعتبار انّها عدو.
ثالثاً- مراجعة عقود التنقيب مع تحالف شركات “توتال وايني ونوفاتيك”، للتأكّد من أنّ الشراكة المعقودة مع شركة “نوفاتيك” الروسية لن تؤدي الى تعطيل العمل في الحقول اللبنانية. وإذا كان هذا الاحتمال قائماً بسبب القرارات والعقوبات الاوروبية على الشركات الروسية، لا بدّ من ايجاد حلّ بالتعاون مع “توتال” الفرنسية، ما دامت باريس تقف إلى جانب لبنان، وجاهزة لمساعدته في تجاوز أزماته. أما مسألة وجود الشركة الروسية الاخرى “روسنفت” في شمال لبنان، حيث تملك عقد بناء خزانات النفط لمدة 20 عاماً، فإنّها قد لا تعرقل مشاريع استخراج وبيع الغاز المُسال في الجنوب.
في النتيجة، هناك فرصة قائمة تسبّبت بها تداعيات الحرب في اوكرانيا، وهي فرصة يمكن ان تفيد لبنان وتدعم فرصه في التعافي السريع من أزمته الاقتصادية والمالية الخانقة، والتي إن استمرت لفترة طويلة قد تهدّد الكيان برمته. ولا خطر يعلو فوق هذا الخطر.