أي اقتصاد نريد؟… سؤال لا تفقهه المنظومة الحاكمة!

في خطة الحكومة للتعافي فقرة كاملة عنوانها «البرنامج الاقتصادي»، تحدد فيها التوجه الماكرو اقتصادي ووجهة البلاد في حال تطبيقها. لنأخذ عينة عن بعض النقاط الواردة في هذه الفقرة.

1 – الهدف الاساسي لخطة الاصلاح يتمثل في تعزيز النمو الاقتصادي.

2 – خلق الوظائف لا سيما للشباب اللبناني الوافد الى سوق العمل.

3 – تخفيض معدلات الفقر.

4 – تحسين مستوى المعيشة.

5 – توفير الخدمات الأساسية للسكان في قطاعات الصحة والتعليم والطاقة.

6 – تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار.

7 – تعزيز الانتاجية في كافة القطاعات الاقتصادية مع التشديد على اقتصاد المعرفة.

8 – تعزيز الخدمات المالية الرقمية، تدعيم اطار الملكية الفكرية وتوفير خدمات انترنت منخفض التكلفة وعالي السرعة وزيادة التغذية بالطاقة الكهربائية.

9 – التركيز على تدابير تؤمن وجود شبكة الامان الاجتماعي الشاملة المصممة بإحكام.

عبارات إنشائية

لا تعدو هذه النقاط كونها عبارات انشائية حتى الآن ولا تعبر بالضرورة عن رغبة حقيقية بإنجازها لدى المنظومة. هي لزوم النص أو لزوم الديكور لاي نص أو خطة يراد منها أن تظهر بديكور اصلاحي. فباستثناء النقطة التاسعة التي يرد لها في متن الخطة شرح بالحد الادنى لكيفية تحقيق شبكة الامان الاجتماعي، لا تشرح الخطة كيف تنوي تخفيض معدلات الفقر أو تحسين مستوى المعيشة. كيف يمكن توفير الخدمات الاساسية للسكان؟ كيف ستقوم الحكومة بتعزيز انتاجية كافة القطاعات وتحديدا اقتصاد المعرفة؟ هي أسئلة لا تمتلك الحكومة والخطة أي جواب عليها.

القرار السياسي غائب

الاقتصادي المخضرم روي بدارو يرى أن أي جواب على هذه الاسئلة لا يمكن أن يتوافر في غياب القرار السياسي الذي يحدد الخيار الاقتصادي للحكومة أو أي سلطة. يعود بدارو الى لحظة سياسية تعبر عن خيار اقتصادي اتخذ وكان من أشد معارضيه. «تثبيت سعر الصرف عام 1997 على سبيل المثال، جاء ضمن سياق مشروع سياسي لخيار اقتصادي أخذته الحكومة آنذاك والسلطة السياسية، وبالتالي لم يكن اجراء مالياً عادياً أو محاسبتياً يراد منه ترتيب دفاتر حسابية وموازنات بقدر ما كان خياراً سياسياً يؤسس لمقاربة اقتصادية للدور الذي تقرر آنذاك».

يذهب بدارو في تبسيط كيف لا يمكن اعتبار أن الخطة تحمل اي بعد اقتصادي شامل ويقول: «الخطة عبارة عن حافلة يقودها شخص يفترض به اطلاع الركاب على الوجهة التي ينوي الذهاب اليها، بعد الاتفاق مع الركاب. في حالتنا سائق الحافلة لا يعرف الوجهة حتى لاطلاع الركاب عليها».

ماذا يعلمون عن توزيع الآلام؟

يصر بدارو على ان الخطة موضوع النقاش هي خطة مالية وليست اقتصادية : «هي خطة تدوير زوايا او بالحدى الاقصى تصحيح مالي ومصرفي لا يأخذ في الاعتبار كيفية توزيع الآلام وليس الخسائر فحسب، فالموضوع ليس مجرد خسائر بل آلام يجب الاعتراف بأنها واقعة لا محال. ولأن القرار السياسي غير موجود وبالتالي تغيب الرؤية الاقتصادية الشاملة، الآلام تتوزع على الشكل الذي نراه اليوم، على المجتمع والاقتصاد برمته».

يخشى بدارو من ان الطريقة التي تعتمد بعد ثلاث سنوات من الازمة وقبل تطبيق الجزئية الاولى من المعالجة المالية التي تعبر عنها حصراً الخطة، قد تقضي على أي فرصة لاحقة في حال توافر القرار السياسي لخطة اقتصادية شاملة، مؤكداً أن «هناك الكثير من اللبنانيين الذين قد يساهمون لاحقا بالمشاركة في دورة الانتاج وقد لا يصمدون حتى توافر القرار السياسي والمقاربة الاقتصادية الشاملة. فمع تعمق الازمة والانهيار، الجزء الأكبر من هؤلاء سيكونون خارج البلاد وستستفيد من كفاءاتهم وخبراتهم دورات اقتصادية أخرى».

ما اقترحوه ليس خطة تعافٍ

المتخصصة في الاسواق الناشئة علياء مبيّض تؤكد أن ما اقرته الحكومة «ليس خطة اقتصادية بل هو مستند مرفق، (annex) يطلبه صندوق النقد لاستكمال ملف لبنان لارساله إلى مجلس إدارة الصندوق. فأي ملخّص يفترض به أن يحدد التوجه الاستراتيجي للخروج من الأزمة على المديين القصير والمتوسط بالاستناد إلى بيانات وتوقعات علمية تعرض على الرأي العام ليتمّ النقاش حولها. ما نشر حتى يومنا هذا لا يمكنُنا كمراقبين وحتى كمواطنين أن نعتبره خطة للتعافي».

مساران مطلوبان: إحتوائي ثم تحولي

كما تشرح مبيض ان أي خطة اقتصادية لمعالجة أزمة مالية ونقدية، غالباً ما تستند إلى مسارين متلازمين: «الاول هو مسار احتوائي يحاول الحدّ من الانهيار وإعادة الاستقرار (stabilization)، والثاني يكون مساراً تحوّلياً يهدف إلى تغيير النموذج غير المستدام القائم على الريع وإعادة بناء نموذج اقتصادي واجتماعي جديد يحاكي مقوّمات البلد وموارده البشرية والمالية في الداخل والخارج، ويستثمرها بما يتماشى مع ميزاته التفاضلية».

تتابع مبيض «أنّنا حتّى الآن، لا نعرف ما هو حجم الاقتصاد او الناتج المحلّي الاجمالي (GDP) الذي ننطلق منه. كما لا نعرف ما هي محركات النمو التي تريد الحكومة تحفيزها لتحقيق مستوى النمو الاقتصادي المستهدف. ما هي تفاصيل السياسات الضريبية وسياسات الانفاق على مدى السنوات الثلاث المقبلة؟ وكيف ستتأثر القطاعات الاقتصادية بهذه السياسات الضريبية؟ هذه الأسئلة الغائبة بأجوبتها هي جوهر أي خطة اقتصادية وأي مسار تحولي وكلاهما غائب في ما يسمى بخطة التعافي».

أنظروا ماذا تفعل تونس

تركن مبيض الى التجربة التونسية في تعاملها ومفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي لمقارنتها بالتجربة اللبنانية لإظهار حجم الهوة بين ادارة البلدين. وتقول: «لا بد من الاشارة الى مسألة مهمة أبعد من غياب أي رؤية اقتصادية في خطة الحكومة اللبنانية، وهي الرغبة السياسية في التعاطي مع صندوق النقد بمنطق دولة. دولة تكون مسؤولة عن خيارات اقتصادية تستمدّها من مشروعية سياسية، وقادرة على تطبيق التزاماتها بكافة كوادرها، وذلك عبر إشراك العدد الأكبر من الموظفين والمسؤولين في مختلف الدوائر الحكومية، وعرضها على أصحاب المصلحة للتشاور».

يكفي النظر الى مقاربة رئيسة الوزراء التونسية نجلاء بودن، التي جمعت مئات المندوبين من كافة الوزارات والقطاعات للعمل ضمن ورشة عمل على صياغة خطة موحّدة بسيناريوات متعدّدة، تمّ على أساسها تحديد استراتيجية التفاوض مع صندوق النقد، تأخذ بالاعتبار ملاحظات الاتحاد العمّالي العام كما والقطاع الخاص بطريقة تشاركية، بهدف الذهاب بموقف موحّد حمله الفريق التفاوضي المؤلف من عشرة أشخاص.

أمّا في الحالة اللبنانية، فهناك شبه تهميش لدور الادارة اللبنانية وبعض كوادرها بأن تكون معنية في عملية صياغة السياسات وبناء قدراتها على رسم السيناريوات والخطط الاقتصادية المستقبلية من جهة، كما وأنّ الرغبة في إشراك الرأي العام والنقابات والقوى المجتمعية، والأخذ بملاحظاتهم شبه معدومة وانتقائية من جهة أخرى. الابتعاد عن المقاربة المؤسسية والتشاركية وإخضاعها لمصالح ضيّقة سيثير الشكوك حول مسار التفاوض مع صندوق النقد ويقلّل من فرص نجاح اي برنامج في المستقبل بسبب غياب الالتفاف المجتمعي حوله وفقدان قدرة الإدارة على فهم الالتزامات التي تأخذها السلطة السياسية باسم الدولة اللبنانية بغية تطبيقها لاحقا.تكرار المأساة؟

اذا كانت الخطة المقرة من مجلس الوزراء وهي لا تحمل أصلا مسارا اقتصاديا تحولياً تخضع لكافة أنواع التشويه والنسف لبنودها الاصلاحية من خلال مطحنة المجلس النيابي، لنا فقط ان نتخيل ما يمكن أن تتعرض له، في حال تجرأ أحدهم على الذهاب بعيدا في سؤال يخشى كثر من طرحه أو يصرون على تجاهله وهو أي اقتصاد نريد كي لا ينفجر بنا النموذج مرة جديدة، لكن بالتأكيد الناجون من اي انفجار لا يمانعون تكراره.

 

مصدرنداء الوطن - آدم شمس الدين
المادة السابقةالطاقة الشمسية 450 ميغاواط… وإلى 1000 في 2024
المقالة القادمةهل يفلس مصرف لبنان؟