قبل نهاية الأسبوع المقبل، يعلن لبنان التخلّف عن سداد استحقاق 9 آذار من الديون وما يليه من أصل المبالغ المستحقة والفوائد المتراكمة، بالتوازي مع إطلاق خطّة إنقاذيّة ماليّة ــــ نقديّة ــــ اقتصاديّة تتضمّن رغبته في التفاوض مع الدائنين. لم يُعلن هذا الأمر بشكل رسمي بعد، إلا أنه الخيار شبه الوحيد المتاح أمام الحكومة. وهو خيار يعكس التحضيرات التي أُعدّت في رئاسة الحكومة ووزارة المال خلال الأيام الماضية: استدعاء بعثة من صندوق النقد الدولي للحصول على مشورة تقنية؛ استدراج عروض وعرض النتائج على مجلس الوزراء لتعيين مستشارين مالي (لازارد) وقانوني (كليري غوثليب) مهمّتهما إعداد التحضيرات المالية والقانونية للمباشرة بعملية إعادة هيكلة الدين؛ تكليف رئيس الحكومة لجنة لإعداد خطّة إنقاذيّة يفترض أن يُتّفق على خطوطها العريضة بحلول نهاية الأسبوع الجاري لتكون ضمن الملف المعروض على الدائنين عند إبداء الرغبة في التفاوض، وأن تُنجز بشكل نهائي خلال شهرين.
إذاً، كيف تبدأ عملية التخلّف عن السداد؟ يقول مصدر وزاري إن هناك طريقتين للتخلّف عن السداد: التخلّف المنظّم والتخلّف الأحادي. كريستيان إيبكي الممثل المقيم لصندوق النقد الدولي في الاتحاد الأوروبي، أبلغ لبنان، قبل فترة، أنه في حال التخلّف الأحادي، أي من دون اتفاق مسبق بين الدولة اللبنانية ومختلف دائنيها، سوف يواجه لبنان جملة نتائج سلبية؛ أبرزها ظهور ضغوط هائلة على ودائع المصرف المركزي، ما قد يستتبع انهياراً حادّاً للعملة الوطنية وتضحّماً من شأنه أن يصل إلى 40% خلال شهرين، وإنتاج دوّامة جهنّميّة تمتدّ لعقود، فضلاً عن أن ردّة فعل الأسواق العالمية سيكون مبالغاً فيها بسبب التوتر في هذه الأسواق. أيبكي أوصى لبنان «بأن تكون إعادة الهيكلة ناجمة عن توافق بين الدولة اللبنانية ودائنيها والمستثمرين»، مشيراً إلى أن على الدولة أو من تنتدبه «زيارة البلدان التي فيها مستثمرون حاملو سندات اليوروبوندز من أجل تفسير مقاربة الدولة اللبنانية لخياراتها في حال قررت إعادة الهيكلة، وشفافية الموقف اللبناني. وإذا قرّر لبنان التخلّف عن السداد من دون توافق مسبق مع الدائنين، فسوف يواجه عدداً كبيراً من الدعاوى التي من شأنها أن تطول وأن تستنزف سمعته وقدرته على طيّ هذه الصفحة من تاريخه».
هكذا بدت واضحة أولى المهمات التي ألقيت على عاتق المستشارين القانوني والمالي: الاتصال بالدائنين وإبلاغهم رغبة الدولة اللبنانية في التفاوض للتوصل إلى «اتفاق مسبق» على إعادة هيكلة الدين. هذا الأمر سيكون له مسار قانوني ومسار مالي. المسار القانوني سيتولاه مكتب كليري غوثليب بهدف إجراء التحضيرات القانونية للاتصال بالدائنين وإبلاغهم رغبة الحكومة اللبنانية، والتحضير لعملية التفاوض لكل شريحة من شرائح السندات على حدة. (هناك نحو 29 شريحة من السندات سيتم التفاوض مع حاملي كل واحدة منها على حدة، علماً بأنه بحسب عقود اليوروبوندز يحتاج لبنان إلى موافقة 75% من مجموع حملة كل شريحة من من أجل الشروع في الاتفاق المسبق).
هناك تركيز على الاستحقاقات الأقرب، أي استحقاقات ثلاث شرائح من السندات في 2020 هي: 1200 مليون دولار تستحق في آذار، 700 مليون دولار تستحق في نيسان، 600 مليون دولار تستحق في حزيران. وبحسب الإحصاءات التي تملكها وزارة المال، فإن صندوق «أشمور» هو أكبر حملة سندات الدين الأجانب في هذه الاستحقاقات الثلاثة لكونه يملك 25.3% من استحقاق آذار، و27.3% من استحقاق نيسان، و29.8% من استحقاق حزيران. وثاني أكبر المالكين الأجانب في هذه الاستحقاقات شركة «فيدلتي» التي تملك 14.9% من استحقاق آذار، و4.7% من استحقاق نيسان، و3.3% من استحقاق حزيران.
وتشير المصادر إلى أن «أشمور» سبق أن اجتمع مع وزير المال غازي وزني الأسبوع الماضي وعرض عليه أن تدفع الحكومة استحقاق آذار، على أن يتم التفاوض على تمديد فترة استحقاقَي نيسان وحزيران، لكن وزني رفض. وقد توافرت معلومات لوزارة المال بأن «أشمور» لن يكون شرساً، لكن لا دلالة واضحة على هذا الأمر، وخصوصاً أنه اشترى كمية كبيرة من السندات في الأسابيع الأخيرة، مراهناً على أن الدولة اللبنانية لن تتخلّف عن السداد، ما يحقّق له أرباحاً ضخمة في فترة وجيزة.
رهانات «أشمور»، كما تردّد بين المطّلعين، مصدرها تمسّك حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بمواصلة الدولة اللبنانية دفع الاستحقاقات للدائنين. في المقابل، باع عدد من المصارف المحلية سندات يوروبوندز من استحقاق 2020 وسواها أيضاً، وإن كانت هذه المصارف بحاجة ماسّة إلى السيولة لتسديد التزامات خارجية، إلا أنها باعت بالاستناد إلى معلومات داخلية، وهذا أمر تبقى نتائجه رهن التحقيقات الجارية.
على أي حال، إن التواصل مع «أشمور» و«فيدلتي» وباقي الدائنين، انطلق وستبدأ النتائج بالظهور خلال الأيام المقبلة. لكن المشكلة الأكبر التي ستواجه عملية إعادة الهيكلة، هي مشكلة حملة السندات المحليين. فحملة السندات الأجانب يمثّلون 10 مليارات دولار من أصل 31.3 مليار دولار، فيما حاملو السندات المحليون هم في الغالب مصارف تجارية عاملة في لبنان، ومصرف لبنان. هذا الأخير يعلن أنه يحمل 5.7 مليارات دولار، ما يعني أن المصارف تحمل نحو 15 مليار دولار (الأرقام بحاجة إلى التدقيق بشكل يومي نظراً إلى عمليات البيع والشراء التي قد تحصل في البورصة). والمصارف ستتكبد خسائر من عملية إعادة الهيكلة، إذا اعتبرنا أن هذه العملية ستحتسب على أساس السعر السوقي للسندات، أكثر من 8 مليارات دولار، أو ما يوازي 37% من رساميل المصارف.
تحاول المصارف، إلى جانب مصرف لبنان، عرقلة إعادة الهيكلة بكل الطرق المتاحة
المصارف ستمانع بقوّة هذه العملية، وهي إلى جانب مصرف لبنان حاولت وستواصل محاولة عرقلة إعادة الهيكلة بكل الطرق المتاحة. قد ينخفض سقف محاولتهما للتخفيف من أثر إعادة الهيكلة على الرساميل، أو المطالبة بتعويض الخسائر من خلال ضخّ رساميل جديدة مموّلة بالمال العام أو بأموال المودعين أو عبر عمليات خصخصة «فاجرة» تتضمّن نقل ملكية الخلوي والميدل إيست وسواهما من الشركات إلى صندوق سيادي يستعمل لتمويل الرساميل. بمعنى آخر، المصارف ومساهموها الذين حققوا ثروات من الأرباح السنويّة السهلة والسريعة المموّلة في غالبيتها بالمال العام، سواء من الخزينة أو من مصرف لبنان، باتوا يعتبرون أن خسارة الرساميل هي حصّتهم في الخسائر التي ستترتّب على لبنان، علماً بأنهم بين 2006 و2019 سجّلوا أرباحاً صافية بقيمة 22 مليار دولار، أي أكثر من رساميلهم، وهذا عدا عن الأرباح الموزّعة سابقاً وتوظيفها في عمليات حققت لهم أرباحاً إضافية طوال أكثر من 25 سنة.
هناك من يفترض أن التعامل مع المصارف ومع مصرف لبنان سيكون سهلاً، لكن الواقع أنه سيكون أمراً صعباً لأن المصارف باتت مفلسة تقنياً، فيما مصرف لبنان يخفي حساباته منذ فترة طويلة، وهو المسؤول الأول عن كل ما قامت به المصارف، وهو الذي أودعت لديه المصارف بالدولار وعلى شكل احتياطات إلزامية وشهادات إيداع و«ودائع لأجل» ما مجموعه 76 مليار دولار، علماً بأنه لا يملك أكثر من 30 مليار دولار احتياطات بالعملات الأجنبية كما يزعم، أي أن 46 مليار دولار تبخّرت وعليه أن يدفعها للمصارف. وبالتالي فإن إعادة هيكلة هذه الديون ستضعه في وضع حرج جداً وستكشف الكثير مما قام به في السنوات الماضية وأبقاه قيد الكتمان.
مشورة صندوق النقد مشروطة ببرنامج
خلاصة ما أدلت به بعثة صندوق النقد الدولي التي أتت إلى لبنان استناداً إلى طلب المشورة التقنية، أن على لبنان التفكير جدياً بتحرير سعر صرف الليرة مقابل الدولار ضمن هامش محدّد، أي أن يكون لدى سعر الصرف مرونة في الارتفاع والانخفاض. ووسط حذر سياسي مما قالته البعثة، تبيّن أنها أبلغت المسؤولين أنها لن تضع أي خطة للبنان إلا إذا طلب لبنان الانخراط في برنامج مع صندوق النقد الدولي، لذا فإن مشورته التقنية ستقتصر على التعليق على الخطّة الإنقاذية التي يعدّها لبنان.
تسديد فوائد شباط
سدّد لبنان أول من أمس مبلغ 71 مليون دولار يمثّل استحقاق الفوائد على محفظة سندات اليوروبوندز عن شهر شباط. من بين هذه الأموال، كان هناك 30 مليون دولار لدائنين أجانب. ويفترض أن تكون هذه الدفعة هي الأخيرة التي يدفعها لبنان قبل إعلان التوقف عن السداد والمباشرة في التفاوض مع الدائنين. ارتفعت انتقادات لهذه الخطوة التي نفّذت وكأنها أمر روتيني، ولأن أحداً لم يلحظها في كل النقاشات الدائرة حول مسألة التوقف عن السداد، إذ كان هناك تركيز واسع على استحقاق آذار 2020 نظراً إلى حجمه الكبير. وبحسب المعطيات، فإن المستشار القانوني للبنان نصح بأن يسدّد لبنان استحقاق أول من أمس، وإلا اعتبره الدائنون تخلّفاً أحادياً عن السداد سيطلق مساراً مختلفاً جداً عن مسار التخلف المنظّم عن السداد.