يواظب حاكم مصرف لبنان، في مقابلاته في الفترة الأخيرة، على التعبير عن تحوّل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد نقدي بعد 17 تشرين الأول 2019، حتى إنّه اعتبر هذا التحول من أسباب الأزمة. استعمال هذا المصطلح يوحي بأن اقتصاد لبنان تحوّل في السنوات الأخيرة إلى اقتصاد غير نقدي يعتمد بشكل كامل على البنى التحتية التي أمّنتها المصارف اللبنانية للقيام بالتعاملات المالية، بينما الاقتصاد اللبناني لطالما كان نقدياً (ورقياً) في ظل ضعف البنى المصرفية وارتفاع كلفتها. عملياً بعد الأزمة انخفضت نسبة العمليات غير النقدية ما دفع سلامة إلى التركيز على هذه النقطة لاستثارة المجتمع الدولي الذي ينظر دائماً بالريبة والشك إلى العمليات النقدية.
من «النقدي» إلى «الرقمي»: أي تحديات؟
الاقتصاد النقدي هو نظام اقتصادي (أو جزء من نظام اقتصادي) تتم فيه المعاملات المالية نقداً وليس عن طريق الائتمان أو الأوامر الدائمة أو التحاويل المصرفية. وتتّجه الدول المتقدّمة بشكل مطّرد نحو التحوّل إلى الاقتصاد غير النقدي، بالاعتماد على تقنيات رقمية تؤمّنها البنى التحتية المصرفية وتكنولوجيا الاتصالات.
في دراسة بعنوان: «إدخال المال الرقمي إلى اقتصاد نقدي»، يسلط جاكي أونيل، وأنوباما داريشوار، وسريهاري موراليدهار، الضوء على إيجابيات وصعوبات تبنّي الاقتصاد الرقمي. برأيهم، إن أنظمة الدفع غير النقدية (بالأخص الرقمية) تهدف إلى التغلب على أوجه القصور في آليات الدفع الأخرى من خلال جعل عملية الدفع سريعة وآمنة وغير ظاهرة إلى حدّ كبير للمستخدم، فضلاً عن خفض أكلاف عمليات الدفع، ورفع مستوى الشفافية فيها.
لكنهم يرون أن سرعة المعاملة ليست الشغل الشاغل للمستخدمين. ذلك أن السياق الاجتماعي الذي تحدث فيه المعاملات له عواقب أيضاً. تكتسي عمليات الدفع بكل أشكالها أهمية كبرى في إطار ملاءمتها للمتطلبات الاجتماعية والثقافية التي تحدّد مدى توسّع رقعة استخدامها. فمجموعة متنوّعة من الممارسات المحيطة بعملية الدفع، مثل المساومة ودعم الخدمة والاستخدام المتعدد للإيصالات، مهمّة جدّاً في السياق الاجتماعي لتبنّي أي آلية منها. كما يشكّل وجود «نظام بيئي للثقة»، أساساً في تبنّي الأجيال الأكبر لأي آليات الدفع غير نقدية، بالأخص الرقمية.
فالمال في العالم يكون جزءاً لا يتجزأ من الممارسات الاجتماعية. هذا يعني أن تجسيد المال – سواء كان نقوداً أم بطاقة أم هاتفاً – يؤثّر على طريقة استخدام الأموال وفهمها. بحسب الدراسة، هناك تحدّ آخر: الانتقال من اقتصاد نقدي إلى اقتصاد رقميّ. فالأشخاص الذين لا يتعاملون مع المصارف، يعتمدون في العادة على الخدمات المالية غير الرسمية التي توصف، غالباً، بأنها غير آمنة وغير مريحة ومكلفة. وفي الدول ذات نسب الفقر المرتفعة، يصعب على المصارف الوصول إلى هذه القطاعات بطريقة فعّالة بسبب الكلفة، حتى في حال وجود تفويضات حكومية. بالإضافة إلى ذلك، يتبيّن أن المستفيد الأكبر من آليات الدفع الرقمية هم أصحاب العمل، الذين يقلّلون من كلفة سير العمل عن طريق إزالة التعامل النقدي وتقليل فرص الاحتيال.
كذلك تطرّق همفري موشي إلى تعقيدات الانتقال إلى الاقتصاد غير النقدي في دراسة بعنوان: «تداعيات المعاملات النقدية في ما يتعلق بغسل الأموال». يقول إن هنالك عدداً من العوامل التي تفسّر انخفاض مستويات الوصول إلى الخدمات المالية غير النقدية. أوّلها أن معظم البلدان في العالم النامي لديها نسبة اختراق أقل للفروع وأجهزة الصراف الآلي، ديموغرافياً وجغرافياً، مقارنة بالدول المتقدمة. بالإضافة إلى أنّه من المحتمل أن يؤدّي انخفاض الكثافة السكانية وأوجه القصور في الاتصالات والنقل إلى زيادة كلفة التبادل في السوق بين الوكلاء في الاقتصاد، إذ يجب أن يسافر الأشخاص والسلع والخدمات مسافات أطول. كذلك تؤثّر مستويات الدخل المنخفضة والافتقار إلى تدفقات الدخل الثابتة على التعاملات المالية لأجزاء كبيرة من السكان، فلا يمكنها اللجوء إلى الخدمات المصرفية. بالإضافة إلى أن عدم استقرار الاقتصاد الكلي في البلدان النامية، بسبب الأزمات الاقتصادية أو السياسية، يشجّع على اللجوء إلى التعاملات النقدية. وتمنع الشروط المصرفية، مثل الحدّ الأدنى المرتفع للأرصدة، والرسوم الشهرية التي تطلبها بعض المصارف، قطاعات كبيرة من السكان من الوصول إلى الخدمات المالية الرسمية. وكذلك قد تشكّل متطلبات التوثيق لفتح الحسابات المصرفية عقبة كبيرة. وقد تكون قائمة المنتجات التي تقدّمها المؤسّسات المالية غير مناسبة لتلبية مطالب السكان، وخصوصاً إذا كان القطاع المصرفي لا يموّل الأعمال الصغيرة أو المشاريع المتعلقة بالزراعة.
مكافحة تبييض الأموال
هنالك نقطة أساسية يركّز عليها موشي باعتبارها سبباً لعدم انتشار آليات التعاملات المالية غير النقدية: مكافحة تبييض الأموال. يعتقد أن تشريعات مكافحة تبييض الأموال المعتمدة في عدد من البلدان، تشكل مانعاً أمام الوصول إلى الخدمات المالية. فمن شروط مكافحة تبييض الأموال، التشدّد في مسائل التوثيق وتحديد الهوية التقليدية ومنع المؤسسات المالية المبتكرة من الالتفاف حولها… والسمة غير الرسمية غالباً ما تكون عائقاً للوصول إلى آليات التعامل المالية الرسمية، ولا سيما في ظل غياب التوثيق الرسمي لمطالبات الملكية على الأصول غير المنقولة التي يمكن استخدامها كضمان. أي أنه لا يمكن تطبيق مطالبات العقد ضدّ الشركات غير المسجلة رسمياً. وذلك يعود إلى أن غسيل الأموال بحاجة إلى إخفاء الهوية خلال القيام بالمعاملات المالية.
ويفنّد موشي أنواع غسيل الأموال؛ أوّلها قد يكون عن طريق اقتناء السيارات الفارهة والسلع العالية القيمة. وثانيها عبر سرقة وتهريب كميات كبيرة من النقود. وقد تندرج حيازة العقارات وتطويرها تحت تصنيف آليات غسيل الأموال، وكذلك الشركات والأعمال التي تدر عائداً نقدياً وتظهر أرباحاً مرتفعة. وربّما أكثر الأمور إثارة للريبة هي تحرّكات النقد بكميّات كبيرة من خلال استخدام ناقلي النقد عبر الحدود.
المفارقة اللبنانية
كل ما سبق ذكره من تعقيدات يمنع نشوء اقتصاد غير نقدي في لبنان. اليوم كما في السابق. فالتحدّيات والسياقات الاجتماعية لعمليات الدفع في لبنان تصعّب تبنّي آليات الدفع غير النقدية. بالإضافة إلى محدودية انتشار البنية التحتية التجارية التي تسمح بالدفع عبر آليات غير نقدية. لذا، ليس مسموحاً القول بأن الاقتصاد اللبناني كان اقتصاداً غير نقدي. حتى البنية التحتية المصرفية كانت محدودة بهذا المعنى أيضاً سواء عبر انتشار محدود للفروع ومراكز الصراف الآلي خارج المدن الرئيسَة، أم من خلال ضعف الخدمات والتكنولوجيا الرقمية التي تقدّمها المصارف. وتحدّ الشروط والأكلاف المترتبة على فتح حسابات مصرفية من الولوج إلى النظام المصرفي. أمّا الخدمات المالية التي كانت تقدّمها المصارف، فلم تكن تلبّي المطالب الاقتصادية للسكان، بل ركّزت على الإقراض الشخصي والاستهلاكي وقنّنت القروض للأعمال الصغيرة والزراعية، ما حدّ بشكل كبير من الانتشار الواسع للخدمات المصرفية. بالإضافة إلى كلّ ذلك فإن النسبة المطّردة الارتفاع للفقر في العقدين الأخيرين في المجتمع اللبناني حتّمت خروج نسبة كبيرة من السكان من النظام المصرفي.
أما بالنسبة إلى تبييض الأموال، فكلّ نوع من أنواعها التي أشار إليها موشي، هي موجودة في لبنان في العقود الثلاثة الأخيرة. يمكن لمعظم اللبنانيين أن يتلمّسوا أدلة عليها. فنسبة السيارات الفارهة التي يمكن رصدها في الشوارع اللبنانية مثيرة للدهشة رغم التدهور الاقتصادي في السنوات الأخيرة. أمّا عدد الأعمال التجارية، التي تستمر بالعمل رغم محدودية الزبائن فكبير أيضاً، ولا يمكن إلا ملاحظته، بالإضافة إلى الكثير من الدلائل الأخرى التي تؤشّر إلى أن البلد كان ممرّاً لكتلة نقدية كبيرة مصدرها غير معروف أو غير محدّد. أصلاً لم ينطلق لبنان في محاولة الانتقال من الاقتصاد النقدي إلى الاقتصاد الرقمي إلا أخيراً. فتم تحديد كمية الأموال التي يمكن للشخص إدخالها على المعابر الحدودية بنحو 10 آلاف دولار فقط مقابل كميات لا متناهية سابقاً. ولم يتبنَّ لبنان فعلياً آليات واضحة في النظام المصرفي لمكافحة تبييض الأموال إلا بعد الاتهامات التي وجهتها الإدارة الأميركية إلى البنك اللبناني الكندي. انهيار البنك شكّل ضغطاً كبيراً على النظام المصرفي. قبل هذا الاتهام كان قانون مكافحة تبييض الأموال الذي صدر في عام 2001 بسيطاً وسطحياً، أما في عام 2015 فقد صدر قانون مختلف تماماً، ولحقته مجموعة قوانين مثل تنظيم نقل الأموال عبر الحدود والتهرب الضريبي… ومذّاك بدأت تصدر تعاميم تتعلق بتنظيم آليات مكافحة تبييض الأموال مثل إنشاء أجهزة مستقلة في المصارف لمراقبة العمليات المشكوك فيها والتبليغ عنها.
ما يمكن أن نلمسه، من تصريحات حاكم مصرف لبنان عن الاقتصاد النقدي، هو أنّه يقصد وجود أموال نقدية بين أيدي المواطنين. فمنذ أول مرة ذكر فيها مصطلح الاقتصاد النقدي عقب أحداث تشرين الأول من العام الماضي، قرنه بسحب المودعين لمبالغ مالية نقدية من المصارف واحتفاظهم بها في المنازل. وازداد تركيزه على الموضوع بعد فتح المطار وتدفّق المغتربين مع أموالهم إلى لبنان. وهذه الأموال بطبيعة الحال لن تدخل إلى النظام المصرفي بشكل تلقائي وسريع، بسبب فقدان الثقة بها. ولكن هذا لا يعني أن مصيرها النهائي لن يكون في النظام المصرفي، فبالنهاية هذه الأموال حينما ستُستعمل، سواء كان الأمر لشراء سلع استهلاكية أو عقارات أو سيارات أو أي نوع من الأصول، سيدخل القسم الأكبر منها إلى النظام المصرفي لسداد ديون أو بهدف فتح حسابات لفتح خطوط ائتمان للاستيراد.
ورغم أن جزءاً من التعاملات المالية في الاقتصاد اللبناني كان يتم بآليات غير نقدية، إلاّ أن التعاملات النقدية كانت طاغية بسبب ضعف البنية التحتية المصرفية والتجارية وبسبب الشروط الصعبة والكلفة المرتفعة وعدم تناسب الخدمات المصرفية… كل ذلك يدفع إلى الاستنتاج بأن الاقتصاد اللبناني كان نقدياً بالجزء الأساسي منه (لنأخذ مثلاً ديون التجار بين بعضهم البعض والتي لا تمر عبر النظام المصرفي)، لكن ما حصل هو أن نسبة العمليات غير النقدية فيه قد انخفضت بعد ذلك الوقت بسبب قلق الناس من انهيار في سعر الليرة. إذاً لماذا التركيز على هذه النقطة؟ هل الهدف إعادة تكوين سريع لاحتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية بعدما تبدّدت؟ أم الهدف استثارة جهات دولية لتعويم القطاع المصرفي وتخويفها من تحوّل لبنان إلى بؤرة لغسيل الأموال بما أن معظم الأموال التي تدخله اليوم لا تدخل عبر القطاع المصرفي الموضوع تحت وصاية الجهات الرقابية الأميركية منذ أكثر من عقدين؟