النفاق هو سمة ملازمة لقوى السلطة في لبنان. فهي تعلن أنها تسعى إلى توحيد الصناديق الضامنة، لكنها في الواقع تعمل على توسيع صندوق وزارة الصحة، أي أنها توسّع «مزراباً» لدى الجهة المعنية برسم السياسات الصحية، وليس تنفيذها. بهذا المعنى، أدرج على جدول أعمال اللجان النيابية المشتركة، مشروع قانون بعنوان «نظام الرعاية الصحية الأولية الشاملة الإلزامية». الاسم يغشّ. فهو ليس المشروع نفسه الذي اقترحه الوزير السابق شربل نحاس بهدف تقديم التغطية الصحية الشاملة المموّلة من الضريبة والذي يوحّد كل الصناديق وكل أكلافها وأسعارها مع المستشفيات والصيادلة والأطباء والمختبرات، بل يعمّق مبدأ تعدّدية الصناديق ويوسّع منطق الزبائنية الذي أنشئت هذه الصناديق من أجله، ويزيد التفاوت في التقديمات لفئات المجتمع.حالياً، يزيد عدد الصناديق الصحية الضامنة عن سبعة، أبرزها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والصناديق العسكرية وتعاونية الموظفين. كلّ منها يخضع لنظام مختلف يتعلق بمستوى التقديمات وبمعدلات الاشتراكات وبعلاقات مستقلّة من الجهات المورّدة. وبسبب هذه الاختلافات المرتبطة عضوياً بهيمنة ذات طابع سياسي طائفي على كل صندوق، يُطلق على وضعية هذه الصناديق اسم «المزاريب». كل جهة تتسيّد مزراباً تقدّم من خلاله خدمات لفئة في المجتمع وتضغط عليها لفرض سلوك أو موقف سياسي. هكذا أصبح الإطار المؤسساتي الموحّد بمثابة تعديل جذريّ في هذه البنية. لكن السلطة التي لم تعد قادرة على إظهار ممانعتها لهذا الإطار المؤسسي، اقترحت إطاراً بديلاً يناسبها أكثر لإبقاء الوضع الحالي، وتحقيق بعض من شعار «التغطية الشاملة» من خلال مجموعة مشاريع ظهرت باسم «البطاقة الصحية» أو «التغطية الصحية» ثم تحوّلت إلى مشروع موحّد سيطرح اليوم على اللجان النيابية لإقراره بعنوان «نظام الرعاية الصحية الأولية الشاملة الإلزامية».
مشروع السلطة للتغطية الصحية الشاملة مبنيّ على إقرار من السلطة، في أسبابه الموجبة، بأن «أكثر من نصف الشعب لا يملك أيّة تغطية صحية»، ويشير أيضاً إلى أنه «في الآونة الأخيرة ثبت عجز الدولة عن القيام بمهام التغطية الصحية كما دأبت»، أي أنها صارت عاجزة بعد الإفلاس. كما يقول إن «المواطن الذي كان يستفيد من تقديمات وزارة الصحة العامة، أضحى مكشوفاً صحياً وقلقاً على صحته وصحة عائلته لأن الوضع القائم انعكس على المواطنين امتناعاً عن اللجوء إلى المستشفيات والأطباء للعلاج». ويعترف معدّو المشروع بأن كل المشاريع السابقة في هذا الإطار فشلت «لأسباب مختلفة، أهمها تأمين الموارد المالية لهذا النظام».
إذاً، المسألة الأساسية تتعلق بفشل قوى السلطة في إدارة النظام الصحي السابق القائم على التعدّدية وعلى التمويل الخاص والعام بشكل يخضع لموازين القوى، أي أن الفئات الأقوى قادرة على تقليص الأعباء وتحميلها للفئات الأضعف. لذلك، لم يجر النقاش في استراتيجية متكاملة تهدف إلى تقديم التغطية الصحية الشاملة، لتكون مجانية ومموّلة بالضريبة، بل نوقش الأمر انطلاقاً من ضرورة تعديل في بنية النظام القائم لينسجم مع تطورات الإفلاس.
وبدلاً من توحيد الصناديق الضامنة تحت سقف تقديمات موحّدة تهدف إلى الشمول وخفض الأكلاف وإعادة توزيعها انطلاقاً من السياسات الضريبية، قرّرت السلطة توسيع التغطية الصحية في وزارة الصحة والتي تقتصر حالياً على الاستشفاء وبعض أدوية الأمراض المستعصية، إلى صندوق أكبر يمنح تغطية طبية واستشفائية ومختبرية… ورغم أن وظيفة وزارة الصحة تكمن في رسم السياسات الصحية بعيداً عن أي أعمال تنفيذية، إلا أن السلطة ترغب في أن يتوسّع هذا الصندوق خوفاً من تداعيات الإفلاس على ارتباطها ببعض فئات المجتمع. وجود صندوق غير فعال وتغطية متدنّية هما طريقة احتيالية على حرمان أكثر من نصف الشعب من التغطية. وهذا التوسيع لا يأخذ في الاعتبار الهيكل الإداري الأساسي في الوزارة التي تعاني الآن نقصاً فادحاً في الموظفين، وأنها استعانت بخدمات خارجية من جمعيات غير حكومية لإنجاز الأعمال الإدارية والمحاسبية في الوزارة. عملياً، المزراب أصبح مخصخصاً.
أهم ما في المشروع يتعلق بالتمويل. ورغم اعتماد «الضريبة على الثروة» كأحد مصادر تمويل توسيع المزراب، إلا أنّ معدّي المشروع وقعوا في مطبّ تخصيص بعض الضرائب لتمويل نفقات صندوق وزارة الصحة. من أبرز مصادر التمويل: فرض ضريبة على الثروة، عقود التأمين، مؤسّسات تحويل الأموال، صفقات الأشغال، ومنتجات التبغ والتنباك والمشروبات الروحية.
من جهة ثانية، قسّمت السلطة المستفيدين من تقديمات الصندوق الجديد طبقياً، إذ قدّمت حزمتين: أساسية وشاملة؛ الأولى مجانية، وتشمل كلّ اللبنانيين غير المضمونين، وتتضمن تقديمات صحية أساسية ووقائية وعلاجية، وفقاً لبروتوكولات وزارة الصحة. فيما الثانية «تستوجب دفع اشتراك سنوي تبلغ قيمته 0.05% من قيمة الحد الأدنى الرسمي للأجور للمستفيدين من الحزمتين». وتوفر الحزمة الشاملة الفحوصات الطبية والمخبرية والشعاعية في المستشفيات الحكومية، وتقدّم خدمة الاستشفاء في المستشفيات الحكومية والخاصة، وتغطي غسل الكلى وأدوية الأمراض السرطانية والمستعصية، كما تغطية الأضرار الجسدية الناتجة من حوادث السير.