ساهم قانون الشراء العام القديم إلى حدّ كبير، بزيادة حجم الدين العام والذي يلامس الـ90 مليار دولار. والسبب، أنّه قدّ تمّ تحليل هذا القانون، بشكل ألّا تخضع كافة المناقصات العامة لرقابة إدارة المناقصات،. فاستُثنيت المجالس والهيئات والصناديق والمنشآت والبلديات الكبيرة من المرور بإدارة المناقصات.
إنّ إدارة المناقصات كانت هيئة مستقلّة تدقّق بدفتر الشروط على أنّه يضمن المنافسة، وتفضّ العروض بشفافية، وتحترم مبدأ تكافؤ الفرص، وكل ذلك بمواكبة فريق تقني تابع للبنك الدولي. الأمر الذي لم يناسب من هم في السلطة، فلجأ وزراء الحكومات السابقة عمومًا، إلى إنشاء هيئات ومجالس وصناديق. وأجرت مناقصاتها من دون الخضوع لرقابة إدارة المناقصات، أي بما يناسب صاحب العرض الفائز سلفًا، ومن دون لا حسيب ولا رقيب. لقد حصلت 90% من الصفقات العمومية طيلة السنوات الماضية على هذا المنوال. فمن جهة اقترضت الدولة الأموال لتسدّد تكلفة الصفقات، رافعةً بذلك حجم ديونها، ومن جهة أخرى، لم تتعدّ أسماء المتعهّدين الفائزين الـ 5 أو 6 (وهم ليسوا بالضرورة الأفضل)، علمًا أنّ اثنين منهم قد أُدرجت أسمائهما على لائحة العقوبات الأميركية في الفترة الأخيرة.
يرى الخبير الاقتصادي، الدكتور باتريك مارديني، أنّ إدارة المناقصات كانت لتحدّ من حجم الفساد ولتقلّص من مزاريب الهدر، من خلال نيلها أفضل العروض، لولا أوكلت لها مهمّة التدقيق في دفتر الشروط وتحديد الفائزين في كافة المناقصات العامة. ويذكر من بين هذه المناقصات، مناقصة البواخر ومناقصة الفيول الأخيرة، حيث نالت الدولة عرضاً بكلفة أدنى بكثير ممّا كانت تناله سابقًا. ويثني مارديني على استقلالية هذه الهيئة، وعلى نزاهة مديرها جان العلّية، الذي يعمل بضمير مهما كثُرت عليه الضغوط.
ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تمرّ فيها البلاد، أقرّ مجلس النواب قانونًا جديدًا للشراء العام، في 30 حزيران من العام الحالي؛ يحرّر المناقصات، لتُقام كل واحدة في الإدارة أو المؤسسة الخاصّة بها، على أن تعود جميعها لتخضع لرقابة إدارة المناقصات، والتي سُمّيت بحسب القانون الجديد «هيئة الشراء العام». وبهذا تطرّق القانون لمبدأ اللامركزية، وتوسّع نطاق عمل إدارة المناقصات ليشمل كافة المناقصات العامة، بما فيها مناقصات المجالس والهيئات وغيرها… ولكن لم تعد هي المولجة مهمّة القيام بالمناقصة، بل تحوّلت إلى هيئة رقابية.
يتأسّف الدكتور باتريك مارديني، على خسارة هيئة الشراء العام، أو ما كان يُعرف بإدارة المناقصات، استقلاليّتها. وذلك بمفعول القانون الجديد، الذي ينصّ على أن تعيّن الحكومة الهيئة العامة التي ستراقب عمل الحكومة عينها. ويسأل مارديني، كيف يُمكن للجهة المطلوب مراقبتها بأن تعيّن من سيقوم بمراقبتها؟ ويشير مارديني، إلى أنّ هذا القانون وبهذه الطريقة، سيُفقد لبنان ولو نسبة الـ 10% من الصفقات العمومية التي كانت تمرّ بشفافية مطلقة، لتصبح بمجملها عرضة للشبهات، لأنّ الهيئة المراقبة والمدقّقة باتت هيئة حكومية غير مستقلّة.
ويتوقّف المرجع الإقتصادي عند كيفية تعيين هذه الهيئة، والتي تخضع لمبدأ المحاصصة بحسب رأيه؛ إذ سيتمّ اختيار الأعضاء من بين الفائزين في الامتحانات، ولكن دون أن يكونوا هم أصحاب العلامات الأعلى، وبالتالي قد لا يكونون الأكثر كفاءة. ويتوقّع مارديني أن يتمّ اختيار الأشخاص، الذي يخصّ فلاناً وفليتاناً، أو من سينفّذ الأوامر من دون أي اعتراض.
ويجد مارديني من المنطقي أن ينتقل الموظفون من إدارة المناقصات إلى هيئة الشراء العام، كلّ في موقعه كما جرت العادة؛ ويستغرب كيف أنّ مدير الإدارة وحده من انتقل من مدير عام إلى مدير عام مؤقّت، وبالتالي وُضع بتصرّف الحكومة. ويشدّد على أنّ هذا التطوّر خطير جدًّا، ويُفقد المدير حصانته كموظف من الفئة الأولى، ويجعله خاضعًا للحكومة التي بإمكانها إقالته في أي وقت. ويضيف مارديني إلى شوائب قانون الشراء العام الجديد، الشقّ المتعلّق بسريّة المعلومات، بحيث بقيت ضمن نطاق واسع ومن دون تفاصيل، تحدّد شموليتها.
فمن الضروري أن يتكتّم أعضاء الهيئة والموظفون عن الأسرار التجارية، وعن تفاصيل العروض والأسعار والأسماء، وغيرها من معلومات مرتبطة بالمناقصات، ولكن هل سيشمل تكتّم هؤلاء عن بعض المخالفات وعن أي شبهة فساد قد تمرّ تحت ناظريهم؟
في الختام، لقد طُعن بقانون الشراء العام «الأعوج» في المجلس الدستوري، وفي حين لا يزال الجدال القانوني قائمًا حول ما صدر عن المجلس في شهر أيلول الماضي، وفي حين كنّا قد استبشرنا خيرًا بأنّ دولتنا الكريمة قد أعلنت توبتها عن سمسرة الصفقات بإصدار هذا القانون، يبدو أنّها مكّنت مخالبها. وهذه المنظومة تتأمّل وتترقّب الدولارات التي سيمنحها إيّاها البنك الدولي، وتبني لنفسها الأرضية المناسبة لتسرق المزيد من أموال الشعب اللبناني.