يصاب الزائر إلى العاصمة السورية دمشق بالدهشة والذهول، بعد مشاهدة حجم التراجع التنموي الذي أصاب “قلب العروبة النابض” نتيجة الحرب. تخال دمشق مدينة من مدن الاتحاد السوفياتي الآفل: يأكل أبنيتها الغبار، ويفتك الترهّل في بناها التحتية. على مدى السنوات الـ 14 الماضية لم يبنِ النظام حجراً واحداً. بل على العكس، دمّر ضواحيها الصناعية التي تحوّلت إلى مدن أشباح… فما لم تدمّره الحرب، استنزفه الإهمال.
بعد سقوط نظام بشار الأسد، تُعدّ عملية إعادة الإعمار “فرصة” لعودة سوريا إلى النمو. وفي الوقت نفسه تُعتبر عملية إعادة الإعمار “جائزة” للعديد من الدول، وخصوصاً تلك المحيطة بسوريا، ومن بينها لبنان الذي يئنّ مثل سوريا (دول محور الممانعة السابق) تحت أزمة اقتصادية تنتظر إصلاحات جوهرية من أجل النهوض باقتصاده. لكن برغم ذلك، يمكن للبنان الاستفادة من إعادة الإعمار، خصوصاً في حال استطاع المستوى السياسي الجديد في سوريا من نقلها إلى الاستقرار، وكذلك إذا ما استطاع إقناع الغرب برفع العقوبات عن دمشق.
لمحة عن حجم الخسائر
تقدّر منظمة “وورلد فيجن” العالمية خسائر سوريا نتيجة الحرب، قرابة 1.2 تريليون دولار وذلك في السنوات العشر الأولى فقط، مما يعني أن الرقم قد يكون أكبر من ذلك نتيجة زيادة منسوب الخسائر ونتيجة التضخّم العالمي.
المنظمة نفسها تكشف أنّ الليرة السورية انخفضت قيمتها بنحو 33900%. اليوم لا سعر صرف رسمياً في دمشق، إذ يقدّر المواطنون السوريون الأمر بشكل عشوائي يراوح بين 9000 و 13000 ليرة سورية للدولار الواحد. أما التضخّم فوصل نتيجة سنوات الحرب لقرابة 2000%، كما تراجعت الصادرات بنحو 88%، وهذا ما تسبّب بانخفاض الناتج المحلي السوري بنحو 86%.
تُعدّ سوريا دولة زراعية، لكن برغم ذلك تراجع الإنتاج الزراعي بنحو 60%، كما انحدر إنتاج النفط بنحو 96%. الإحصاءات تكشف أنّ قطاع العقارات في سائر سوريا قد تمّ تدميره، إذ تظهر المشاهدات في محيط دمشق والطرقات المؤدية إلى المحافظات، أنّ الدمار كبير جداً خصوصاً في ضواحي العاصمة مثل زملكا، والقلمون، وحرستا… التي كانت مناطق صناعية وتجارية بامتياز وجرى تدميرها بشكل شبه كامل.
تشكّل مدينة حلب الشمالية 25% من الاقتصاد السوري، وقد توقف ما يتجاوز 75% من مصانعها نتيجة الصراع المسلح بين قوى النظام والمعارضة. تأثّر جيران سوريا من جراء هذه الحرب كان كبيراً، إذ انخفض متوسط النمو السنوي للناتج المحلي في تلك البلدان على الشكل التالي: في العراق 1.2%، وفي الأردن 1.6%، أما في لبنان فتراجع الناتج المحلي بنحو 1.7%… وكان من بين أكثر الدول تأثراً بالأزمة السورية.
600 مليار دولار
التقديرات الدقيقة لإعادة إعمار ما تهدّم في سوريا ليس بالأمر اليسير، نتيجة عدم وجود إحصاءات أو مسح شامل لكل الأضرار في كل المحافظات. لكن التقديرات الأولية الغربية تشير إلى أنّ الخسائر والأضرار تتراوح بين 300 و900 مليار دولار، بينما أبرز المهتمين في إعادة الإعمار إلى اليوم، هم: دول الاتحاد الأوروبي، تركيا، وإلى حدّ بعيد الدول الخليجية على رأسها قطر والمملكة العربية السعودية.
لبنان والفرصة الذهبية
يُعدّ لبنان أقرب الدول من العاصمة دمشق. كما أنّ مرفأ بيروت أقرب من المرافئ السورية في طرطوس واللاذقية. هذا الأمر يشكل امتيازاً للبنان يستطيع استغلاله في ما لو قُدّر للسلطة السياسية الإفادة منه. ويستطيع القطاع الخاص في لبنان تقديم العديد من الخدمات التي يتعطّش لها السوق السوري، وعلى رأسها القطاعات التالية:
1- القطاع المصرفي: أيّ مشروع لإعادة الإعمار حول العالم في حاجة إلى الأموال والاستثمارات… هذا الأمر لا يمكن أن يحصل بلا قطاع مصرفي فاعل. بسبب النظام السابق، كان القطاع المصرفي في سوريا ضعيفاً وغير قادر على مواكبة الاقتصاد. أما اليوم، فإنّ النهوض سيكون في حاجة إلى ورشة إصلاحية تطال القوانين والأنظمة المالية والنقدية. وإذا ما حصل هذا سريعاً، فإنّ القطاع المصرفي اللبناني يستطيع أن يعود إلى سوريا بعد أن هجرها في سنوات الحرب. صحيح أنّ سمعة القطاع المصرفي اللبناني ليست على ما يرام نتيجة الأزمة اللبنانية، لكن أحداً لا يمكنه إنكار قدرات الكادر الإداري والوظيفي في المصارف. أضف إلى هذا، فإنّ قرب المسافات بين بيروت والشام يلعب دوراً مهماً يمكّن الطامحين بالعمل في سوريا إلى الذهاب والإياب كل يوم، خصوصاً إذا استكمل مشروع “الأوتوستراد العربي” الذي يربط لبنان بسوريا… وبقية الدول العربية.
2- القطاع السياحي والفندقي: على الرغم من أن دمشق تشتهر بمطبخها الشامي الغني، إلاّ أنّ القطاع السياحي (مطاعم، مقاهي وفنادق) لم يكن على ما يرام في سنوات الحرب. إذ تراجع هذا القطاع كثيراً وتأثرت الخدمة نتيجة ارتفاع معدلات الفقر. هذا الأمر أدّى إلى تراجع الخدمات في المطاعم بشكل كبير، كما أنّ عدد الفنادق الفخمة فمعدودة، إذ ظهرت أزمة غرف في العاصمة دمشق منذ الأسبوع الأول على سقوط النظام، حيث تهافت المراسلون الصحافيون من الخارج، وارتفعت أسعار الغرف، فوصلت إلى ما فوق 200 دولار للغرفة الواحدة. الاستثمار في هذا القطاع الذي يمتاز به اللبنانيون ربّما يكون هو الآخر فرصة لا تُعوّض. خصوصاً أنّ استقطاب اليد العاملة اللبنانية إلى دمشق لم يعد أمراً صعباً، باعتبار أنّ الرواتب في لبنان تراجعت إلى حدّ كبير بعد الأزمة.
3- الوساطة والخدمات: يُعدّ هذا المجال “الملعب اللبناني”. في هذا المجال تنشط الكثير من شركات ومؤسسات القطاع الخاص، التي تستطيع أن تلعب دور الوساطة في الاستيراد، خصوصاً أن البنى التحتية اللبنانية الحالية (على علّاتها) تستطيع أن تلبي الطلب في سوريا، ويمكن للبنان أن يكون في السنوات المقبلة “المرفأ” و”المستودع” السوري. القدرات التي تتمتع بها اليد العاملة اللبنانية واتقانها للغات الأجنبية، يجعل من السهل على الدول الغربية المهتمة بإعادة إعمار سوريا، الاعتماد على اللبنانيين من أجل جعل العمل أكثر مرونة وسهولة. كما أنّ مرفأي بيروت وطرابلس، هما الأقرب إلى المدن السورية المتعطشة للإعمار مثل حمص، حماة والعاصمة دمشق وضواحيها.
هذا كله، قد يصبّ في المصلحة اللبنانية. إلا أنّ الأمر سوف يكون بحاجة إلى وعي سياسي، يمكّن السلطة التي ينتظر اللبنانيون إعادة تكوينها، من فهم الدور الاقتصادي الذي ينتظر سوريا في المنطقة… خصوصاً بعد أن تحوّلت من حضن “محور الممانعة” إلى المعسكر الغربي الذي تقوده وترعاه الولايات المتحدة الأميركية.