بعد سنة ونصف من بداية الأزمة، أصبح بديهياً الحكم بأن المصارف اللبنانية متعسّرة مالياً، لا سيما أنها تحتجز الودائع بالدولار في اقتصاد مدولر بنسبة تتجاوز 70%. وواقع الأمر هو أن خطّة الإنقاذ المالي، التي وضعتها الحكومة المستقيلة، اعترفت بتعسّر المصارف عبر طرحها حلّين متزامنين لمأزقها؛ الأول عبارة عن صندوق استثماري توضع فيه عائدات مؤسّسات الدولة وتوزّع على المصارف، وهذا الحل يُعدّ Bail out. أما الثاني، فهو أن توزّع المصارف أسهماً على المودعين الذين لن تتمكّن من إعادة ودائعهم لهم، وهذا الحل يُعتبر Bail In. والحل الثاني كان سيؤدّي إلى تغيير بنية الملكيات في المصارف اللبنانية لتصبح حصص المساهمين المحليين صغيرة وسيدخل كبار المودعين كمساهمين أساسيين.
ظاهرياً، وبكل المقاييس اللبنانية، خسارة ملكية مصرف أمر جلل. لكن هذا مربوط بالقبول بافتراضات بالتأكيد مرّت في أذهان كبار مساهمي المصارف اللبنانية. افتراضات تسلّم بأن الوضع السياسي الذي يؤمّن الحماية للمصارف سيستمر، وأنّ هذا الوضع سيدفع باتجاه إعادة العمل بالنموذج الذي حقّق أرباحاً تفوق الـ30 مليار دولار في العقود الثلاثة الماضية. ومن الافتراضات أيضاً، أن الطوائف اللبنانية ستستمرّ برؤية القطاع المصرفي استثماراً ناجحاً وأنّها ستستمر في القتال عنه لتحفظ حصصها فيه. ومن يظنّ أن التقاطع بين عالم الأعمال والطوائف في لبنان أمر طارئ أو هامشي، لا يقدّر حقيقة تشابك الطوائف في البنى السياسية والاقتصادية والثقافية في لبنان. ويتجاهل أن هذا القطاع المصرفي هو التجلّي الأحدث زمنياً للاحتكارات التي نشأت في كنف الطوائف في فترة تشكّلها الأول بعد الانفتاح على الأسواق الأوروبية في نهايات القرن السابع عشر (راجع عدد الإثنين 8 حزيران 2020 و الإثنين 15 حزيران 2020 ). ومحاولة تحليل الوضع الحالي، عبر فصله عن هذا المسار التاريخي، لن يأتي إلا باقتراحات حلول مجتزأة ستفشل بعد مدة زمنية قصيرة.
وإذا محّصنا في سلوك أصحاب المصارف وداعميهم (من سياسيين وممثّلين للطوائف) سنجد أن هذا العامل قابل للإسقاط على سلوكهم وتقديرهم لقيمة المصارف. ويصبح طبيعياً من منظورهم رفض التخلّي عن حصصهم وملكياتهم في المصارف مقابل شطب ودائع ضخمة أضاعوها في مخطط البونزي الكبير. نحن هنا نتحدث عمّا يُقدّر بنحو 80 مليار دولار خسائر وفق تقديرات الخطة الحكومية.
كل العوامل المذكورة، يمكن إسقاطها على سلوك كبار المساهمين في المصارف اللبنانية، وهي تفسّر، بواسطة «أثر الوقف»، رفض المصارف المضي قدماً في تنفيذ خطّة التعافي المالي. لكن هذه الخطّة لم تعد صالحة اليوم، وكذلك الأمر بالنسبة للخطة البديلة التي اقترحها تحالف أصحاب المصارف والطوائف التي تتبناهم والقوى والشخصيات السياسية التي تمثّل مصالحهم. ولأن الخسائر قد تحقّقت على أرض الواقع، وليست خسائر وهمية في دفاتر حسابات، لا يمكن أن تستمر لعبة التحايل عليها إلى الأبد. فما يقوم به مصرف لبنان والمصارف اليوم ما هو إلا تأجيل التعامل مع المشكلة. ولهذا التأجيل كلفة يجب أن تتحمّلها المصارف (بالإضافة إلى كلفة سوء الأمانة في التصرف بأموال المودعين)، بينما تعمل بالتشارك مع حاكم مصرف لبنان على تحميلها للمودعين والدولة.