«نعيش على أمل أن تُفرج»، هو لسان حال عباس البائع في أحد متاجر المواد الغذائية في الضاحية الجنوبية. أسعار السلع ترتفع يومياً، ولا أحد قادر على التنبّؤ بما ستؤول إليه الأوضاع. الإقبال على الشراء خفيف، يكاد يقتصر على «الكفاف». لا زبائن اليوم إلا لما هو ضروري. «يقصدنا المواطنون لشراء أرخص الأصناف من نوع معين ولا من «يدلّع» نفسه بأصناف كانت مخصصة للتحلية وللأوقات العادية!»، فمن لديه قرش يحتفظ به لأن الأحوال لا تبشر بالخير «الناس تحسب حساب الأسوأ في بلد القدرة الشرائية فيه للمستهليكن ضعيفة في الأحوال العادية، فكيف الحال في مثل هذه الظروف: عدم ثبات سعر صرف الدولار وفراغ حكومي ولا من أو ما قد يطمئن!».
على عكس عباس يبدو زميله حسين، الذي يتولى البيع في قسم الكهربائيات والأدوات المنزلية، مطمئناً، فهذه «فترة وبتقطع»، وهو ككثيرين يؤمن بأن البلد «سيزمط من هذا القطوع كما زمط من غيره»، علماً بأنه يشير إلى أن أسعار الأدوات الكهربائية والمنزلية ارتفعت بنحو 15 في المئة، وذلك قبل بداية الاحتجاجات الشعبية، وتحديداً من بداية شهر أيلول الماضي! الخوف والترقّب يحكمان الجميع، كحال وداد التي تتردد يومياً على أحد أسواق الخضر والفاكهة الكبيرة في حي ماضي. تستغرب أن صراخ الناس ووجعهم من الغلاء والفساد لا يصل أسماع المعنيين، وكأنما أعطى مفعولاً عكسياً، فها هي أسعار الخضر ارتفعت: «كيلو البندورة كان بـ1000 ليرة صار بـ2500 ليرة، وكيلو البطاطا الذي كان بـ750 ليرة أصبح بـ1500 ليرة».
جولة على بعض كبريات التعاونيات الاستهلاكية في بيروت، والتي يقصدها اللبنانيون، ولا سيما أوائل الشهر، لشراء حاجياتهم لشهر كامل، تشير إلى ارتفاع مهول في أسعار السلع الغذائية والاستهلاكية. والسبب الأبرز هو «أن المؤسسات التجارية تتسلم البضائع عبر الدفع بالدولار للمستوردين، والكل يعلم أن صرف الدولار بلغ الأسبوع الماضي 1850 ليرة مقابل الدولار الواحد وأحياناً أكثر، وهو ما يضطرنا إلى زيادة الأسعار لتغطية فرق سعر البضاعة لئلا تنكسر المؤسسة»، بحسب مدير مبيعات في تعاونية تجارية كبيرة. عيّنة من أبرز السلع الأساسية التي يستهلكها اللبنانيون تشير إلى ارتفاع جنوني في الأسعار، من حليب الأطفال الذي سجل ارتفاعاً قياسياًَ بزيادة 3000 ليرة لبنانية، إلى أصناف الحبوب، حيث ارتفعت مثلاً أنواع الأرز كافة من نحو 1500 ليرة إلى 2200 ليرة، إلى مواد التنظيف التي ارتفع أغلبها بحدود 500 إلى 1000 ليرة، وحفاضات الأطفال، والسجائر… وبحسب بيان لجمعية حماية المستهلك: سُجل ارتفاع في الأسعار خلال شهر (منذ نهاية شهر أيلول إلى نهاية تشرين الأول) على الشكل التالي: ارتفع سعر الخضر بنسبة 27 %، والفواكه بنسبة 2 %، واللحوم بنسبة 7%، وسُجل ارتفاع أسعار الألبان والأجبان 3 %. وبحسب بعض المعنيين، فإن ارتفاع الأسعار هذا غير مبرر، لأنه جرى على بضاعة كانت مخزنة في المستودعات، وهو ما يعني أن هذه الأسعار مرشحة للارتفاع أكثر بعد استيراد بضاعة جديدة! في المقابل، يبرر البعض ارتفاع الأسعار بزيادة الطلب نتيجة لجوء الكثير من العائلات المتوسطة الدخل إلى تخزين حاجياتها، خشية ارتفاع أسعارها أكثر، كتخزين الحبوب، وأدوات التنظيف…
ارتفاع الأسعار هذا غير مبرّر، لأنه جرى على بضاعة كانت مخزنة في المستودعات
تسعير البضائع يختلف من سوبرماركت إلى آخر حسب المناطق والمتاجر. فالصنف الواحد قد يرتفع سعره بحوالى 500 ليرة في أحد المتاجر فيما قد يزيد 750 ليرة أو أكثر في غيره! فوضى التسعير حجتها فلتان سعر صرف الدولار، بحسب رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برو، الذي يضيف: «في مثل هذه الأحوال يستغل التجّار هذه الأوضاع لتأمين أرباح إضافية غير مبررة. والحجة التي نواجه بها دائماً أن الاقتصاد اللبناني حرّ ولا يمكن تقييد العمليات التجارية». حتى أن بعض المتاجر يمارس الخداع، فهو لم يغيّر في أسعاره على رفوف العرض، لكنه يضيف ضريبة على الصندوق أو هو يقدم عروضات وهمية! لكن ماذا عن حماية المستهلك؟ يجيب برو بأن وزارة الاقتصاد حدّدت رقابة على 6 سلع أساسية، كالدواء، والطحين، والمحروقات، والدجاج… على ألا تتجاوز الأرباح فيها سقفاً معيناً وإلا سُجلت فيها محاضر ضبط، علماً بأن أي من محاضر الضبط لم يتم دفعها.
لكن ألا ينعكس غلاء الأسعار انخفاضاً في الطلب على السلع، وبالتالي تنعكس أزمة الغلاء حتى على التجار؟ لا يرى برو ذلك سوى في حدود معينة، إذ إن «لبنان من البلدان النادرة التي لا يتلف فيها شيء، وكله يخضع لإعادة التدوير وتزوير التواريخ»، ويبقى التجار رابحون في كل الأحوال! بعد إعادة فتح المصارف أبوابها يوم الجمعة الفائت، عاد «سعر الدولار» إلى الانخفاض، من دون أن يعني ذلك انخفاضاً في أسعار السلع! الاتجاه العام هو نحو زيادة الأسعار بحسب برو. ويرى أن ثلاثة اجراءات سريعة يجب على الدولة اتخاذها وهي: «(1) فوترة كل الاتصالات بالليرة، (2) تطبيق الـ«كابيتال كونترول»، أو القيود على السحب والتحويل منعاً لهروب رأس المال، (3) تدخّل الدولة في تثبيت الأسعار وفق ما كانت عليه في شهر أيلول». أما الاجراءات الحقيقية فتستلزم «تغيير النموذج الاقتصادي اللبناني المشوّه الذي يعتمد على قطاعي المصارف والتجارة وجزء من السياحة، ما يدفعه إلى استيراد جزء كبير من احتياجاتنا الاستهلاكية بحدود 20 مليار دولار سنوياً، ويكون ذلك عبر رسم سياسات جديدة توسع قاعدة الإنتاج المحلي، من خلال تعزيز ودعم الدولة للقطاعات المنتجة، وهو ما يخفف استخدام الدولار ويعزز الليرة».