صدر أمس بيان عن مكتب وزير المال يوسف الخليل، بشأن مجريات اللقاء بين الوزير وممثلي شركة التصنيف ستاندر أند بورز. الوزير أبلغهم بأن المالية العامة حقّقت فائضاً في عامي 2023 و2024 بقيمة 364 مليون دولار و298 مليون دولار، وأن هذا الفائض كان «الركيزة الأساسية في استقرار سعر الصرف والتراجع الملحوظ في التضخّم». غير أن كلام الخليل، يتناقض مع ما تنقله أوساط حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، لجهة كون الأخير هو راعي استقرار سعر الصرف، بدليل أن هذا الاستقرار حصل منذ توليه الحاكمية يوم فرض شرطه على الحكومة بالامتناع عن إقراضها وأوقف عمليات «صيرفة» التي كان الحاكم السابق قد حوّلها إلى منصّة لتوزيع الدولارات.
بمعزل عن أي نقاش بشأن هوية راعي الاستقرار، فإن ما يهمّ فعلاً هو أنه استقرار أتى بعد انهيار مصرفي ونقدي يجري التعامل مع نتائجه بإنكار متواصل منذ أكثر من خمس سنوات. أي ادّعاء قد يكون محقّاً في جانب منه. لكنّ الواقع، هو أنه تمّ الاتفاق على اللجوء إلى «وصفة» صندوق النقد الدولي: «التقشّف».
تطبيق هذه الوصفة أتى ترجمة لضغوط مارستها جهات دولية بدعم تقني من صندوق النقد الدولي، وانعكست محلياً بـ«ضبضبة» المضاربين. في الفترة التي سبقت، مباشرة، تولّي منصوري منصب الحاكم بالإنابة، التقى مسؤولون لبنانيون ممثلي وزارة الخزانة الأميركية وصندوق النقد، ثم اتّسعت دائرة اللقاءات لتشمل دولاً أخرى وممثلي مصارف كبرى وغيرهم… في تلك الفترة، كان تركيز «المجتمع الدولي» على تحوّل لبنان إلى اقتصاد كاش قائم على أنه يتم تداول الدولار بحريّة في السوق، بعدما كان تحت الرقابة المصرفية. وفي أيار 2023، أصدر البنك الدولي دراسة عن اقتصاد الكاش يقدّر فيها أنه في عام 2020 بلغ مجموع قيمة التداولات النقدية 4.5 مليارات دولار، أو ما يوازي 14.2% من الناتج المحلي الإجمالي، وفي السنة التالية بلغت قيمة التداولات نحو 6 مليارات دولار أو ما يوازي 26.2% من الناتج، وفي عام 2022 بلغت قيمتها 9.86 مليارات دولار أو ما يوازي 45.7% من الناتج. أيضاً في تلك الفترة، بدأت تثار مسألة إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمنظمة «فاتف». وكان سعر الصرف قد بلغ أعلى مستوى له في آذار 2023، وبالتوازي كان التضخّم ثلاثي الأرقام، فيما كان الاختلال كبيراً في سعر الدولار الجمركي الذي يُفترض اعتماده في الموازنة.
في هذا السياق، انتهى الأمر في لبنان إلى تفاهم بين السلطتين المالية والنقدية، كان عرّابه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي والحاكم وسيم منصوري. بُني هذا التفاهم على أساس أن لبنان يحتاج إلى مكافحة «اقتصاد الكاش»، إذ كان أول طروحات منصوري بدعم مباشر من عضو المجلس المركزي سليم شاهين، الانتقال من نظام «صيرفة» المبني على عمليات «الكاش» إلى منصّة «بلومبرغ» بالاستناد إلى دراسة أعدّها فريق عمل صندوق النقد الدولي في أيار 2023، وبناءً على توصياته بالتوقف عن استخدام «صيرفة». عُرض الأمر على الحكومة في أيلول 2023 فأخذت علماً بذلك (بدأ تدريب موظفي مصرف لبنان على المنصّة لكنها لم تُطلق بسبب اندلاع الحرب لاحقاً). وعندما أُقرّت موازنة 2024، كان أساسها «التقشّف» رغم تعديل أسعار الدولار الجمركي لتتناسب مع سعر الصرف السوقي. وبحسب بنود التفاهم المالي – النقدي، كان على الحكومة ووزارة المال الامتناع عن الإنفاق قدر الإمكان، أي إنهما ستتركان رواتب العاملين في القطاع الخاص تتآكل بلا تصحيح، وستمتنعان عن أي إنفاق استثماري، وستكبحان الإنفاق التشغيلي إلى أدنى حدّ حتى لو أدّى ذلك إلى انهيار القطاع العام، وهو بالفعل ما حصل. وكان على المصرف المركزي بقيادة منصوري، أن يقود حملة تجفيف الليرات التي ضخّها الحاكم السابق رياض سلامة، في السوق لمنع أي طلب على الدولار، وأن يواصل الامتناع عن إقراض الحكومة مهما كان طلبها مهمّاً لقطاع ما أو اجتماعياً بشكل أساسي، وأن يؤمّن تسديد الرواتب الزهيدة للقطاع العام بالدولار بدلاً من الليرة بكلفة لم تكن تتجاوز في حينه 80 مليون دولار شهرياً (ارتفع الآن إلى نحو 168 مليون دولار، أي 2.5% مما كان عليه في عام 2019).
في سوق مدولرة، فإن آلية كهذه، إذا طُبّقت بشكل جدّي، والواقع أنها طُبّقت بشكل متطرّف، ستؤدي حكماً إلى تحقيق فائض أولي في المالية العامة، وستؤدي أيضاً إلى تجفيف الليرات من السوق، لأن السوق لم يعد يقبل التعامل بالليرة اللبنانية إلا لتسديد الضريبة. عملياً، لا الدولة أنفقت الأموال، ولا مصرف لبنان اضطر أن يقرضها، بل طبّق الاثنان معاً وصفة «التقشّف» وفق آليات الحياد السلبي، وعلى أن يؤدّي الاثنان معاً دوراً بمعالجة خسائر القطاع المالي (الودائع)، لكنّ كليهما اعتبرا الأمر يحتاج إلى قرار لم يحن أوانه، فقامت الحكومة بواجبات الحدّ الأدنى تجاه تطبيق التزاماتها مع صندوق النقد الدولي ومنها إقرار موازنة واستقرار سعر الصرف، ثم جهّزت مشروعاً للتعامل مع الخسائر في القطاع المالي وإعادة هيكلة المصارف جرى تعديله مرات ومرات من دون إقراره، فيما كان مصرف لبنان يقول إنه أتمّ واجباته تجاه هذا المشروع من خلال تزويد الحكومة بالمعلومات التي طلبتها، لكنه تصرّف وكأنه ليس الجهة الناظمة للقطاع المصرفي. وطوال هذا الوقت، طُبّق الاتفاق بين وزارة المال ومصرف لبنان على كل من يتقاضى أموالاً عامة من متعهدين ومقاولين ومصارف وعاملين في القطاع العام وغيرهم، بأن تكون الدفعات منسّقة حتى لا تضخّ وزارة المال كميات كبيرة من الليرة في السوق المحلية وتخلق طلباً على الدولار. وهذا سببه، أن لبنان يكاد يكون صفر إنتاج بالمعنى الحرفي، أي إنه مستهلك للدولارات لا جاذب لها، وبالتالي فإن القسم الأكبر من السلع المُستهلكة محلياً تأتي من الخارج ويُدفع ثمنها بالعملة الأجنبية، ما يعني أن كبح استهلاك الحكومة يقلّص نزف الدولارات إلى الخارج ويتيح ترتيب توازنات نقدية بين كمية الدولارات والليرات في السوق.
هذا النوع من الاستقرار الهشّ في سعر الصرف، أتى على حساب الاقتصاد والمجتمع. يكاد يكون بلا معنى. فلا يجب إغفال حقيقة أن لبنان مُثقل بديون تفوق الـ55 مليار دولار من سندات اليوروبوندز (الأصل نحو 34 مليار دولار تضاف فوقها الفوائد)، وأن لبنان لم يتخذ أي خطوة بعد في اتجاه معالجة هذا الملف، لا بل إنه يمتنع عن تسجيل أي التزام مالي تجاه تسديد هذه الديون، في سجلّات الخزينة منذ عام 2020 لغاية اليوم.
تساوي هذه السندات بقيمتها الاسمية قبل الهيركات أو الاقتطاع بعد التوافق مع الدائنين، نحو مرتين ونصف مرة الناتج المحلي الإجمالي، وهي تساوي 15 ضعف الموازنة العامة. ووسط «التقشّف» يسجّل لبنان استعادة لاقتصاد قائم على تحويلات المغتربين الذين زاد عددهم بفعل التفليسة ثم بفعل العدوان، بينما في الداخل يرتكز الاقتصاد على الاستهلاك بشكل أساسي. باستثناء التعديل في بعض آليات عمل هذا الشكل من الاقتصاد، لم يتغيّر شيء، وهذا يشمل النزاع على استقرار سعر الصرف.