بعد أكثر من خمس سنواتٍ على إغلاقه، أُعيد افتتاح معبر القائم ــــ البوكمال الحدودي بين العراق وسوريا. سنوات الحرب ضد تنظيم «داعش» أجبرت كُلّاً من بغداد ودمشق على إخلاء تلك المناطق الحدودية. هناك، تمدّد أكثر التنظيمات تطرّفاً في العالم، واتخذ من الصحراء وتضاريسها ملاذاً له ولمسلحيه. إعلان بغداد القضاء على «داعش» في كانون الأوّل/ديسمبر 2017، واستعادة دمشق مساحاتٍ شاسعة من حدودها الشرقية في العام نفسه أيضاً، فرض نقاشاً جديّاً حول ضرورة افتتاح خطّ طهران ــــ بغداد ــــ دمشق ــــ بيروت، الذي أطلق عليه البعض تسمية «أوتوستراد محور المقاومة».
ما جرى أمس يحمل دلالاتٍ كثيرة، سياسياً واقتصادياً وتكتيكيّاً واستراتيجيّاً. في الحد الأدنى، هو إعلانٌ صريح بأن الدولتين تماثلتا للشفاء بعد سنوات من الدم والنار. في بغداد كما في دمشق، القرار واحد: كِلا الجانبين متمسكٌ بخيار الدولة، ولا يريد سواها على الضفة الأخرى من حدوده. هكذا يعبّر مصدرٌ أمنيّ عراقي مطّلعٌ على اتصالات بغداد ــــ دمشق.
سياسياً، تعكس إعادة افتتاح المعبر تمسّك الجانبين، وتحديداً العراقي، بنظرية استثمار الموقع الجغرافي وتوظيفه في سياق استعادة الدور الإقليمي، والحضور على الخريطة السياسية. طوال العامين الماضيين (2017 ـــــ 2019)، ومع وصول قوات البلدين إلى المنطقة الحدودية، وبدء الحديث عن «الأوتوستراد» (بمعزلٍ عن نشاط هذا «الخط» من عدمه)، مارس الأميركيون ضغوطاً هائلة على الجانب العراقي منعاً لعودة «الحياة» إليه. عرقلوا في كثيرٍ من الأحيان عمليات استعادة تلك المناطق في المقلب العراقي، ولاحقاً عمليات تطهيرها. رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، عرقل هو الآخر إعادة «الحياة» إلى هذا الشريان الحيوي. صبّ اهتمامه على خطٍّ آخر: بغداد ـــــ عمان، مانحاً «تأمينه» إلى شركاتٍ أمنية أجنبية، وتحديداً أميركية. أراد العبادي، تحت الضغط الأميركي وإيماناً منه، «تحييد» العراق عن أي خطوةٍ من شأنها «تنفيس» الخناق الممارس من واشنطن على دمشق.
أوْلى عبد المهدي الانفتاح على جيران العراق أهميةً قصوى
اليوم، ومع عادل عبد المهدي، كانت الرؤية مغايرة. أوْلى الانفتاح على جيران العراق أهميةً قصوى، بدءاً من الأردن فالسعودية وتركيا وإيران، واليوم سوريا. فأنبوب بغداد ــــ عمان، المعني بإمداد الأخيرة بالنفط عن طريق الصهاريج، فرض تأميناً أمنياً له، كما فرض خط بغداد ـــــ عرعر، الذي سيفتتح بعد أسبوعين، الخطوة نفسها، المسحوبة أيضاً على خط بغداد ـــــ دمشق. مصادر قريبة من عبد المهدي لا تنفي الضغوطات الأميركية الهائلة لإبقاء الخط الأخير مغلقاً، مؤكّدةً، في حديث إلى «الأخبار» أن الأميركيين قدموا إغراءاتٍ إلى الرجل «حتى لا ينحو باتجاهٍ يعاكس رغباتهم… يُفهم أنه مقتنع بخيارات محور طهران».
وسبق أن ذكرت مصادر أن «واشنطن غير مرتاحة لأداء الحكومة الحالية»، وأن أسباباً كثيرة وراء ذلك، ولعل واحداً منها اقتناع عبد المهدي بضرورة الانفتاح على دمشق. الفريق المقرّب منه يدرك أن إمساك الأمن في المقلب الغربي للبلاد يفرض وجوداً سوريّاً. كذلك ثمة اقتناع في دمشق بأن المنطقة الشرقية تحتاج في ضبطها إلى انتشارٍ عسكري عراقي. ولأن الاستقرار الأمني يؤسّس لاستقرار الحراك الاقتصادي، فإن العمليات العسكرية التي أُطلقت مطلع الصيف الماضي هدفت إلى تأمين جيوبٍ قد تشكّل تهديداً لهذا الخط. ولديمومة ذلك، فإن تأمينه في المناطق الصحراوية سيُسند إلى بعض قطعات «الحشد الشعبي» والقوات الأمنية المختلفة، أما في المنطقة الحدودية، فإن قوات «حرس الحدود» ستتولى حمايتها.
هذه الخطوة، في وصف مصادر دبلوماسية عراقية وسورية، «صفعةٌ» لواشنطن، بل يذهب البعض إلى اعتبارها الانتصار «الأكبر» منذ 2003. فـ«الأوتوستراد» بات آمناً لـ«محور المقاومة» كلياً، و«الجدار» الذي أوجدته الحرب في البلدين «كُسر»، والمساحات التي خُلقت لتحرّك الإرهابيين، برعاية أميركية مباشرة، تمت استعادة معظمها. اليوم، وباتفاقٍ العاصمتين، فإن وجهة بغداد باتجاه البحر المتوسط باتت سالكة، وخطّ دمشق باتجاه الوسط الآسيوي سالك أيضاً. وهو ما يعني أن هذا انتصارٌ سياسي ــــ اقتصادي بالمعنى الحرفي، مع إدراك أصحاب الأرض لمصالحهم التي بُني عليها التحرّك طوال الفترة الماضية، كما أنه إنجازٌ أُجّل أكثر من مرّة نتيجة ضغوطاتٍ سياسية أو استهدافات عسكرية مقصودة أو عراقيل لوجستية، سارعت بغداد إلى معالجتها طوال الأشهر الثلاثة الماضية.