لم يشفع صغر عمر “المجمّعات التجارية” ومظهرها الشاب في حمايتها من مرض الشيخوخة المبكرة. فأعراض الاضطراب السياسي والاقتصادي الوراثي بدأت تظهر على مختلف مواليد الأعمال لحقبة منتصف التسعينات، ومنها “المولات”. كيانات اقتصادية عملاقة شكلت على مدار الأعوام الأخيرة علامة فارقة في صناعة التسويق والترفيه، تلفظ أنفاسها الأخيرة، لتحرم الاقتصاد من “اوكسيجين” لطالما غذّى شرايين الاقتصاد بجرعات من الإستثمارات وخلق فرص عمل للشباب.
المشهد من داخل “المولات” سريالي. هنا محلات غطت واجهاتها الواح البليود “Plywood” البنية وجرارات التنك الفضية، بعدما كانت لوحات تسويقية تسرق الأنظار. وهناك صف طويل من المواطنين غير مبال باجراءات الحجر والتباعد الاجتماعي، ينتظر بشغف الدخول للمرة الاخيرة على متجره المفضل للملبوسات قبل اقفاله النهائي آخر هذا الشهر. وفي داخل متجر الزاوية لادوات الزينة “تظاهرة” بشرية سببها إعلان التصفية وعرض أي قطعة بـ 10 آلاف ليرة.
إنسحاب العلامات التجارية يفاقم خسائر “المولات”
إنسحاب العلامات التجارية العالمية، التي استوطنت المولات و”شكلت معها الوجه الآخر لعملية التطور والإزدهار الاقتصادي، يفاقم أزمة المجمعات التجارية”، بحسب رئيس جمعية تراخيص الامتياز يحيى قصعة. “فالارتباط بين المفهومين عضوي، والواحد منهما يكمل الآخر”. في العادة يجد أصحاب الامتياز FRANCHISORS، والامتيازات FRANCHISEES، في المجمعات التجارية البيئة الحاضنة لانطلاقهما وتوسعهما. وسواء كانت العلامة التجارية عبارة عن مطعم أو مقهى أو متجر أو مركز ترفيه وتسلية أو مكتبة او خلافه، فانها ستجد في “المول” الطريقة المثلى لعرض المحتوى. “فكيف اذا كان الحال كما في لبنان”، يقول قصعة، “حيث نجحت المجمّعات التجارية في توفير تجربة تسويقية متمايزة، وضعتها في مصاف مثيلاتها في اميركا وأوروبا”.
بيد أن هذا التكامل العضوي مكلف على الفريقين. فمع اشتداد الأزمة الاقتصادية واستفحال كورونا تراجعت أعداد زوار المجمعات التجارية بما لا يقل عن 50 في المئة. وفي المقابل خسرت العديد من القطاعات التجارية وتحديداً “في ما يتعلق بقطاع الملابس والازياء والسلع الفاخرة بين 80 و90 في المئة من حجم أعمالها بالمقارنة مع العام 2012″، بحسب أرقام الجمعية اللبنانية لتراخيص الامتياز، وهو ما شكل ضربة مزدوجة. “فالعلامات التجارية ستقفل بداية نقاط بيعها في المجمعات التجارية، حيث تزداد نفقاتها، وذلك نظراً لارتفاع الاكلاف التشغيلية للمجمعات”، يقول قصعة.
الصمود للأقوى
هذا الواقع ترافق بحسب المعلومات مع محاولة بعض المجمعات التجارية تقديم الإغراءات والمحفّزات للمستثمرين مع بدء ظهور عوارض الأزمة في العامين 2018 و2019 من اجل تقطيع المرحلة. فطلبت مجموعة الفطيم دعماً خارجياً لأعمالها في لبنان، وعمدت مجموعة ABC إلى إعفاء المستأجرين من بضعة أشهر… وجرب البعض الآخر من المجمعات طرقاً مشابهة. إلا إن هذه المحاولات باءت بالفشل. خصوصاً بعد انفجار الأزمة الاقتصادية نهاية العام الماضي. وعلى الرغم من إقفال مجمّعين تجاريين، فان “ارتفاع كلفة الإستثمارات في المجمعات يحول دون إقفالها سريعاً”، بحسب احد المصادر المعنية. لكن المشكلة انه كلما طالت الازمة ستتعمق الخسائر أكثر. “خصوصاً مع عدم بروز أي بوادر انفراج”.
الأزمة في قطاع البيع بالتجزئة الذي يشكل عصب المجمعات التجارية لم تكن وليدة انطلاقة الثورة في 17 تشرين الأول من العام الماضي. بل هي تعود بحسب مدير عام مجموعة Admic ميشال أبشي إلى “السياسات الاقتصادية التي وضعتها حكومة الرئيس سعد الحريري واستمرت مع خليفتها برئاسة حسان دياب. والتي هدفت إلى تخفيض العجز في الميزان التجاري من خلال تخفيف الإستيراد وتشجيع التصدير”. الضوابط على الإستيراد ترافقت بعد 17 تشرين الاول مع عجز التجار عن استعمال حساباتهم المصرفية وتوقف البنوك عن القيام بالتحويلات الخارجية، إعطاء الكفالة المصرفية وفتح الإعتمادات، وهو ما أدى بحسب أبشي إلى “زيادة الضغط بشكل كبير جداً على التجار والمستوردين من دون أن تكون هناك فترة زمنية كافية او تحفيزات، أو خطة عملية ترافق هذا التحول في الاقتصاد من الخدماتي إلى الانتاجي. ونتائج هذا التحول الذي تم بكبسة زر بدأت تظهر اليوم، من خلال إقفال المؤسسات والشركات التجارية وصعوبة تأمين الدولار وانخفاض القدرة الشرائية عند المستهلكين وتعدد أسعار الصرف”. ما سينعكس برأيه “على المجمعات التجارية. وسيؤدي إلى إقفال بعض منها، خصوصاً تلك التي تفتقر إلى القدرات المالية أو القدرة على خلق عناصر جذب جديدة تساعدها على الصمود والاستمرار”.