مخطئ من يعتقد أنّ ما نعيشه اليوم أو ما نمرّ به حالياً هو الأزمة الاقتصادية التي يتحدثون عنها، وأنّ ما نعيشه اليوم هو الأسوأ. الحقيقة أنّ الأزمة الاقتصادية والحياتية لم تبدأ بعد، والأهم أنّها لن تحلّ بمجرّد توفُّر الحلّ السياسيّ، وستطلّ برأسها اعتباراً من أواخر شباط المقبل، وتتمثّل بطي صفحة حياة الرخاء والانتقال الى نمط حياة لم يعتده اللبناني في العصر الحديث. فماذا ينتظرنا؟ وما الأسوأ؟
سيشكّل عام 2020 عاماً انتقالياً للمواطن اللبناني من نمط حياة الى آخر مختلف تماماً، وأصلاً نمط الحياة قبل 17 تشرين لن يكون كما بعده ولن يشبهه بشيء. من كان يتوقع أن يدرج ضمن يومياته زيارة الى المصرف وانتظار حوالى الساعة لأخذ 200 دولار وفور الانتهاء من هذه المهمة يشعر بالنصر لأنّه تمكّن من تحرير بعض من أمواله، ومن كان يتوقع أنّ سعر المنقوشة او سعر كيلو اللبنة، الترويقة البسيطة للمواطن اللبناني، سيتضاعف، وانّ فاتورة السوبرماركت لن تقل عن 200 الف ليرة مقابل لا شيء يذكر.
لكن حتى الان يمكن القول اننا بخير لأنّ البضاعة في السوبرماركت او المتاجر او محلات الالبسة والاحذية والالكترونيات لا تزال متوفرة، بفضل مخزون التجار القائم منذ ما قبل الثورة وقبل التدابير والقيود المصرفية التي فرضتها طبيعة الحال، الّا ان الاخطر سيبدأ بعد ان ينقص المخزون من دون ان يتمكن التجار من الاستيراد مجدداً، حتى انّ ما نشتريه اليوم بأضعاف ما كنا نشتريه قبل ارتفاع سعر صرف الدولار الى 2000 ليرة سيفقد من الاسواق مع انتهاء مخزون التجار، عندها على سبيل المثال لن تجد في السوبرماركت الشوكولا المفضل لديك او مشروبك المحبّب، او اغراضك المفضلة ولا قطع غيار قد تحتاجها لسيارتك بشكل فوري… عندها يبدأ الأسوأ.
يؤكد نائب رئيس جمعية الصناعيين جورج نصراوي لـ«الجمهورية» انّه في ظلّ الأزمة الاقتصادية التي نمرّ بها اليوم مترافقة مع تدنّي دخل الفرد اللبناني لن يسمح له مصروفه ان يعيش بالطريقة نفسها التي كان يعيشها في السابق، فبعض المنتجات التي اعتاد على استهلاكها ستتغير لأنّ قدرته الشرائية تدنّت، وبالتالي أصبح ملزماً بشراء الأقل ثمناً.
ويقدّر نصراوي تراجع القدرة الشرائية ما بين 20 الى 25 في المئة والسبب الرئيسي في ذلك يعود الى الفرق في سعر صرف العملة، فبينما سعر الدولار الرسمي لا يزال 1515 ليرة هو يباع عند الصرافين بـ 2000 ليرة. هذا الفارق دفع بأسعار السلع الى الارتفاع بمقدار فارق العملة. وعزا نصراوي ذلك الى اسباب عدّة ابرزها: ان المصارف اللبنانية ترفض ان تحوّل للتاجر او الصناعي حساباً لديها من الليرة اللبنانية الى الدولار ليستعملها لشراء بضائع من الخارج، ما يدفع الصناعي مرغماً الى شراء الدولار من عند الصراف وفق التسعيرة الاغلى اي 2000 ليرة ويعطيها للمصرف حتى يقوم المصرف بتحويلها الى الخارج لشراء مواد اولية اساسية للصناعة، ورغم ذلك تلقى هذه العملية صعوبة في الاستيراد من جانب المصارف الذين يرفضون في غالبية الاحوال تحويل الاموال الى الخارج. هذا الواقع انعكس فقداناً في بعض السلع لأننا غير قادرين على تأمين التمويل لاستيرادها، وبالتالي سيلاحظ المستهلك تدريجياً انّ بعض السلع ستُفقد عن رفوف السوبرماركات. وبالنتيجة ستتغير عادات المواطن اللبناني لأنّ القدرة الشرائية تدنّت ولأنّ بعض المنتجات لم تعد متوفرة.
وعن قدرة الصناعة اللبنانية على تغطية النقص الناجم عن تراجع الاستيراد، يؤكد نصراوي انّه لا يمكن تصنيع كل ما نستورده في لبنان، الا ان الاكيد ان المصانع اللبنانية ستستمر في تأمين الامن الغذائي لتغطية حاجات السوق. لكن المصانع اللبنانية تواجه مشكلة تتمثل بعدم قدرتها على استيراد بعض المواد الاولية التي تحتاجها لديمومة انتاجها واستمراريته بسبب توقف التحاويل الى الخارج، وهذا ما نعمل على حلّه مع الجهات المعنية، وقد اوصى رئيس الجمهورية بتوفير استيراد المواد الاولية الاساسية للامن الغذائي والموضوع بات في عهدة المصارف.
ورداً على سؤال، أكد نصراوي انّه في المرحلة المقبلة لن نجد المنتجات الفاخرة واذا وجدت لن يكون بمقدور المستهلك شراؤها بعدما تدنت قدرته الشرائية من جهة، وارتفعت نسبة البطالة من جهة اخرى، نتيجة الضرر الذي اصاب المؤسسات ودفع العديد منها الى صرف عماله او خصم راتبه او الانتقال الى دوام جزئي.
اما المستوردات التي لا يمكن للصناعة المحلية ان تغطيها والتي من المتوقع ان تفقد من الاسواق في المرحلة المقبلة او ترتفع اسعارها بشكل لافت هو بعض القطع الكهربائية والالكترونية والسيارات ومواد التجميل والالعاب… كما سنفتقد للماركات العالمية. في المقابل، توقّع نصراوي ان تنتعش بعض الصناعات في لبنان نتيجة هذه الاوضاع مثل صناعة الاحذية والألبسة.
بدوره، أكد عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي عدنان رمال ان نمط حياة اللبناني سيتغير للأسف، وهو لا يدرك ذلك بعد ويأخذ الامور باستهتار في حين نحن نتجه الى الاسوأ. وقال لـ«الجمهورية»: انّ الاوضاع الاقتصادية تتدهور بشدّة بسبب وجود سعرين للدولار بفارق 35% بينهما، وبسبب شح الدولار في المصارف والكلفة العالية التي تكبدها مصرف لبنان لجلب الدولارات من الخارج ودفع مقابلها كلفة عالية على الفوائد، لذا هو لن يفرّط فيها الآن لتأمين اموال الاستيراد واكبر دليل على ذلك انه أمّن للمعدات الطبية، اعتمادات بالدولار بنسبة 50 في المئة فقط من حجم الاستيراد وهذا اكبر دليل على مدى ندرة الاموال التي انعكست تقنيناً في الاعتمادات وترجمت تراجعاً في تصنيف المصارف الى درجة التعثر، وهذا التصنيف سيجعل الاعتمادات المستندية التي على أساسها يتمّ الاستيراد غير مقبولة.
واوضح رمّال ان لا علاقة للوضع الذي نحن فيه اليوم بتشكيل الحكومة اي ان الاوضاع لن تعود كالسابق بعد تشكيل الحكومة، وفي حال تشكلت الحكومة فستلجأ الى اتخاذ قرارات صعبة يكون تأثيرها مباشراً على المواطنين، بينما الأزمة التي نعاني منها موضوعها تقني ماليّ بحت ناتج عن ازمة اقتصادية سياسية سابقة لا علاقة لها بالشأن السياسي المستجد.
تابع رمال: استورد لبنان في العام 2018 ما بين 20 و 22 مليار دولار، وكان من المتوقع ان يسجل العام 2019 ارقاماً مشابهة لولا الاحداث التي حصلت في الفصل الاخير من العام والتي تراجع على اثرها الاستيراد، الا ان البضائع والسلع الموجودة اليوم في السوق هي نتيجة استيراد سابق، مؤكداً ان التجار والشركات لم يقوموا بأيّ عملية استيراد جديدة لذا لم يشعر المواطن بعد ان هناك نقصاً في بعض السلع لأنه حتى الان، ورغم ارتفاع الاسعار، لا تزال المنتجات متوفرة، لكن عندما سيبدأ مخزون السلع في لبنان بالنفاد، سيلاحظ المواطن ان هناك العديد من الاصناف غير المتوفرة. وبالتالي، ان الكثير من السلع التي اعتاد المواطن اللبناني على استهلاكها سوف تكون غير موجودة في الاسواق اعتباراً من نهاية شهر شباط وخلال شهر آذار سيبدو النقص فاضحاً، خصوصاً وان هناك توجّهاً لدى المركزي لخفض حجم الاستيراد الى النصف. وبما ان المستهلك خسر 35 في المئة من قدرته الشرائية فسيتوجه من تلقاء نفسه الى الاستغناء عن الكثير من السلع والى تحديد سلع جديدة لاستهلاكها في المرحلة المقبلة تتناسب وقدرته الشرائية.
وأكد رمال اننا امام مشكلة كبيرة لأن ليس لدينا صناعات بديلة كفيلة بتغطية كل حاجات السوق، وان صناعاتنا البديلة محدّدة بالصناعات الغذائية البسيطة ولا خطر على الأمن الغذائي اليوم، الا ان الشح سيطال الألبسة خصوصاً الماركات العالمية (لن تكون متاحة للجميع)، كذلك السيارات الجديدة موديل العام. وكشف في هذا السياق عن إعادة نحو 800 سيارة جديدة الى الشركات المُصدِّرة، بسبب عدم القدرة على بيعها، وجرى توريدها الى أسواق اخرى. كما سيلاحظ ندرة كل ما يتعلق بحياة الرفاهية مثل شح المفروشات المستوردة، وشح الالكترونيات، والاطعمة الفاخرة مثل السوشي والسومو، وندرة في الماركات العالمية والعطور المعروفة ومستحضرات التجميل والمشروبات الروحية والألعاب اي ان الشح سيتظهّر بكل ما يعرف او يصنّف ضمن الكماليات. وحتى بعض الاساسيات مثل قطع غيار التي سيضطر المواطن لطلبها من الخارج ودفع ثمنها بالدولار ونقداً، بما يعني ان بعض السلع لن تكون متوفرة عندما يطلبها المستهلك. وبالتالي، على اللبناني ان يعتاد على نمط حياة مختلف عما اعتاد عليه سابقاً، فهو سيخسر الكثير من الاشياء التي اعتاد عليها في حياته اليومية
وردّاً على سؤال عن مدة هذه المرحلة الصعبة التي نمر بها قال رمال: في حال تم تشكيل حكومة في وقت سريع واتخذت قرارات جدية فعالة بالتعاون مع الدول المانحة والدول التي تنوي مساعدتنا وجرى صرف ما لا يقل عن 5 مليار دولار في السوق كـFresh money سنحتاج اقله الى 3 سنوات للخروج من هذه الأزمة على ان تكون سنة 2020 الاصعب، اما في السيناريو الأسوأ فإذا لم تتخذ هذه القرارات سريعاً سنحتاح الى ما لا يقل عن 5 الى 6 سنوات للخروج من هذا المأزق.
ايفا ابي حيدر – الجمهورية