الإيجابية ــــ الوحيدة ــــ التي سُجّلت في عام الانهيار اللبناني، كانت الانخفاض التاريخي في عجز الميزان التجاري وتقليص الاستيراد. لكن ذلك لم يوظّف لتحسين كمية الصادرات اللبنانية إلى الخارج ونوعيتها. وهو ما كان سيدخل الى البلد «دولارات طازجة» تُساهم في تحريك الاقتصاد. العوائق أمام الصادرات كثيرة، تبدأ من استغلال التجارة من قبل دولٍ تُريد تطويع لبنان سياسياً وتفرض عليه شروطاً قاسية، ولا تنتهي بصناعيين وتُجّار لم يستوعبوا بعد انتهاء النموذج السابق وأولوية تحسين النوعية والأسعار لتمكين السلع اللبنانية من المنافسة
في عزّ الانهيار ــــ المالي والاقتصادي والنقدي ــــ القاسي الذي يمرّ به لبنان، لاحت بوادر «فرصة» كان ممكناً اقتناصها لو توافرت الرؤية والقرار. فخلال السنة الماضية، انخفض العجز في الميزان التجاري، بين أيلول 2019 وأيلول 2020 من 12.50 مليار دولار إلى 5.25 مليارات دولار، بتراجع نسبته 58.03%. انهيار سعر صرف العملة، والمضاربات على أسعار الدولار، والقيود التي فرضها مصرف لبنان والمصارف، ومن بعدها انتشار «كورونا»، قصرت الاستيراد على «السلع الرئيسية». وقد كان ذلك «خرقاً إيجابياً» في بلدٍ يحرص، مثلاً، على «حماية» اتفاقية استيراد الحليب واللبن واللبنة من السعودية، في وقت تحظر فيه الأخيرة استيراد البيض من لبنان!
الميزان التجاري هو الفارق بين الاستيراد والتصدير. يرتفع العجز فيه عندما تفوق أرقامُ الواردات أرقامَ الصادرات. ارتفاع نسبة العجز يدل على استنزاف العملة الصعبة، ما يقود إلى الضغط على العملة المحلية.
في لبنان، الذي لم تدخله دولارات تُغطّي الكميات التي خرجت منه، شكّل العجز في الميزان التجاري باباً رئيسياً للأزمة الحالية. وكان يُفترض بحال الطوارئ الاقتصادية أن تُغيّر العقلية السائدة، وتُستغل لتأسيس نظام جديد يُحدّد صورة الدولة الاقتصادية. لم يحصل ذلك، وتحديداً في موضوع الاستيراد والتصدير (الذي شهد أيضاً انخفاضاً بنحو 174 مليون دولار إلى 2.63 مليار دولار، بين أيلول 2019 وأيلول 2020).
أوجه المشكلة متعددة، منها استخدام بعض الدول التجارة لتشديد الحصار على لبنان، وعدم الانفتاح على أسواقٍ جديدة، وعدم الإفادة من الاتفاقيات التجارية التي تحوّلت إلى «اتفاقيات انتحار»، وضعف القدرات التنافسية للسلع اللبنانية… وأخيراً عقلية بعض الصناعيين والتجّار المُصرّين على تحويل الأزمة إلى فرصة لمضاعفة أرباحهم الفردية وتحويل «الدولارات الطازجة» التي يحصلون عليها من مبيعاتهم في الخارج إلى حسابات مصرفية أجنبية. لذلك، فإن «أسعارنا في الخارج غير تنافسية، والفارق في الأسعار بيننا وبين غيرنا يصل أحياناً إلى 500%»، بحسب منسقة السياسات الاقتصادية في وزارة الاقتصاد ريّان دندش. كمثال على ذلك، فإن سعر أحد أنواع اللبنة اللبنانية التي تُباع في الكويت «يبلغ 14 دولاراً، فيما المنطقي أن يباع بما يراوح بين دولارين و5 دولارات حداً أقصى، لأن معظم التكاليف لا تزال على أساس سعر صرف 1515 ليرة للدولار».
يقرّ نائب رئيس جمعية الصناعيين، جورج نصراوي، بالمنافسة التي تتعرّض لها السلع اللبنانية، لافتاً الى أنّ الدول الأخرى «تدعم الصناعات المحلية، فيما دولتنا غائبة، مع العلم بأنّ عدداً من الصناعيين يُضحّون بخفض كلفتهم للحفاظ على زبائنهم». لكن، ماذا عن تدني كلفة الإنتاج مع انهيار العملة، وعدم رفع الحدّ الأدنى للأجور، واستمرار حصول الصناعيين على مواد وكهرباء مدعومة؟ يجيب: «هذا صحيح. لكن، في المقابل، ارتفعت بعض المصاريف، والمصارف تُطالب بتسديد القروض بالدولار، ما يعني لجوءنا إلى السوق السوداء، والكلفة عالية لتأمين المواد الأولية». و«رغم جهود وزارة الصناعة لتحويل 100 مليون دولار من المصارف كلفة مواد أولية، لا تزال إجراءات التحويل صعبة بسبب امتناع مصارف عن تنفيذ العملية».
بعد عامين على تعيين 20 ملحقاً اقتصادياً (أصبح عددهم 18) في بعض السفارات اللبنانية في الخارج، «انتبهت» وزارة الاقتصاد إلى وجودهم. قبل شهرين، نظّمت لقاء معهم ضم الصناعيين «للبحث في تعزيز الصادرات وجذب الاستثمارات ومعرفة المشاكل التي تحول دون وصول المنتجات اللبنانية إلى الأسواق الخارجية»، بحسب المدير العام لـ«الاقتصاد»، محمد أبو حيدر. ويؤكد لـ«الأخبار» أن الوزارة «مُستمرة في عقد اجتماعات ثنائية مع كلّ ملحق اقتصادي لمناقشة العوائق التجارية في كلّ بلد، وكيفية خلق أسواق بديلة لسلع جديدة. فنحن بأمسّ الحاجة إلى تأمين تدفقات الدولار من الخارج». العمل «بدأ مع الملحق الاقتصادي في الكويت، شادي أبو ضاهر. عقدنا معه اجتماعاً في 21 كانون الأول ضمّ ممثلين عن كلّ القطاعات المعنية». أبرز الأمور التي بُحثت هي إنشاء المختبرات، والبحث في إقامة أجنحة لبنانية في محال السوبرماكت في الخارج، وإعادة النظر في تركيبة أسعار السلع المُصدّرة. النقطة الأخيرة أساسية، استناداً إلى أبو حيدر، «لزيادة المبيع في الخارج، وخصوصاً أنّ السلع اللبنانية باتت باهظة الثمن مقارنةً بغيرها، كالتركية أو المصرية. لكنّ الصناعيين يرفضون هذا الأمر».
قدّم الملحقون الاقتصاديون مجموعة من الملاحظات حول عوائق التصدير واقتراحات لتفعيلها. من بين النقاط، بحسب دندش، « أن إحصاءات الجمارك اللبنانية والجمارك في كل من العراق والأردن بيّنت وُجود فوارق في أرقام التصدير والاستيراد بين لبنان وهذين البلدين، وكذلك في نوعية السلع التي يتمّ تبادلها». هذا «التهريب» عبر المعابر الشرعية يُعيق تحديد العجز في الميزان التجاري. ورغم مراسلة وزارة الخارجية لوزارة الاقتصاد، في 15 تموز 2019، حول وجود فروقات تعود إلى عام 2001، لم يتم اتخاذ أي قرار. الأمر نفسه ينطبق على إظهار أرقام الجمارك انخفاضاً في استيراد لبنان لبعض المنتجات الزراعية (البندورة، الخيار، اللوبيا، الباذنجان، الفليفلة)، ليتبيّن أنّ لبنان لا يزال يستوردها من سوريا ومصر! كذلك لفت المُلحقون الى «وجود أكثر من سعر للمُنتج نفسه، فتم اقتراح أن يأخذ المُصدّر إذن المُنتج مُسبقاً». بالنسبة إلى نصراوي، هذا الاقتراح «يزيد الإجراءات ويُعقّدها عوض تسهيل عمليات التصدير»، مُعتبراً أنّ كلّ الاجتماعات «لا تزال في إطار الكلام وتوضيح بعض الأمور من دون منحى جدّي». طرح المُلحقون الاقتصاديون أيضاً «المعاملة بالمثل مع الدول التي تفرض قيوداً وشروطاً على التصدير»، وفق دندش، وخصوصاً أن دولاً عربية عدة لا تُعفي البضائع اللبنانية من الرسوم، مُخالفةً اتفاقيات السوق العربية المشتركة.
أما الأهم، فهو الاستفادة من الفرص المُتاحة في أسواق جديدة (الصين مثلاً) عادةً ما يتمّ تجاهلها في لبنان، إمّا عن جهلٍ، أو عن «خوف» من أن يؤدّي الانفتاح عليها الى إغضاب الولايات المتحدة وحلفائها. في العامين الماضيين، راسل المُلحق الاقتصادي اللبناني في الصين، جوزف طنّوس، وزارة الاقتصاد ست مرات، مقترحاً مُشاركة لبنان في «Cross Border Trade E-Platforms»، المنصة الرقمية الصينية التي تسمح ببيع منتجات أجنبية من دون أن تكون مُخزّنة في الصين. من إيجابيات هذه المشاركة أنّ التعريفات الجمركية عليها تتراوح بين 6.3% و9.1%، مقارنةً بـ 13% للتجارة التقليدية، فيما يستغرق التخليص الجمركي 10 أيام مقارنة بـ 76 يوم عمل للمنتجات المبيعة بالطرق التقليدية. كلفة إقامة «متجر رقمي» تتراوح بين 50 ألف دولار و70 ألفاً، ويمكن تمويله مستقبلاً من الأرباح التي يُحقّقها، ولا تستغرق إقامته أكثر من 5 أشهر بعد توقيع المستندات المطلوبة. إضافةً إلى ذلك، كان بإمكان لبنان أن يستفيد من الاتفاقيات التي تعقدها الصين لاستيراد المنتجات الطازجة. تلفت دندش الى اتفاقية لاستيراد الحامض وقّعتها الصين مع مصر في 2006. وتوضح أن حجم الصادرات المصرية من الحامض للصين «ارتفع من 50 ألف دولار في 2007 إلى 66 مليون دولار في 2019». مثال آخر، الأوروغواي التي كانت صادراتها من اللحوم إلى الصين تبلغ 339 مليون دولار في 2008، «ارتفعت ستة أضعاف بعد 10 سنوات على توقيع البلدين اتفاقية المنتجات الطازجة»!
تضييق عربي على البضائع اللبنانية
عوائق عدة تُواجه المُصدّرين اللبنانيين إلى أسواق الدول العربية، من بينها العراق وقطر والإمارات والأردن والكويت والسعودية.
ــــ العراق: تحديث بعض المواصفات بشكل مباغت من دون فترة سماح؛ طلب فحوصات مخبرية غير موجودة في لبنان ومواصفات فنية غير تلك التي يتم بموجبها التصدير إلى كل دول العالم: رسوم جمركية تصل أحياناً إلى 30% من قيمة البضاعة، على رغم وجود اتفاقية «تيسير» للتبادل التجاري مع الدول العربية.
ــــ قطر: رفض شحنات عدة لدى اختبارها في قطر، رغم أن البضائع اللبنانية تخضع لكل الاختبارات ونتائجها مُعتمدة من الاتحاد الأوروبي والدستور الغذائي؛ مُطالبة السلطات برسم 5% على المجوهرات رغم إبراز شهادة منشأ لبنانية للمجوهرات؛ كلفة الشحن مرتفعة مقارنة ببقية الدول المجاورة.
ــــ الإمارات: فرض دفع الرسوم رغم إرسال شهادة المنشأ؛ كلفة تفتيش كل شحنة في دبي 300 دولار؛ عدم وجود غطاء لتأمين الصادرات إلى الإمارات؛ ارتفاع كلفة رسوم التصديق الخاصة بوثائق التصدير الصادرة عن غرفة التجارة والصناعة التي تصل في بعض الأحيان إلى 1000 دولار.
ــــ الأردن: ارتفاع كلفة الإجراءات والمدفوعات على الحدود السورية، ما يؤثر على تنافسية المنتجات المبيعة في الأردن؛ عدم اعتماد المواصفات اللبنانية رغم حصولها على شهادة جودة.
ــــ الكويت: لا يتم تحديد الجداول الزمنية لتسعير الأدوية؛ إحداث ضرر في التغليف الكرتوني بسبب التفتيش الجمركي الكويتي، ما يزيد من الكلفة؛ عدم وجود خطّ شحن سريع بين لبنان والكويت.
ــــ السعودية: الزيادة في رسوم تأشيرة سائقي الشاحنات اللبنانيين من 130 دولاراً إلى نحو 800 دولار. التشكيك بمنشأ الصناعات اللبنانية وعدم إعفائها من الرسوم الجمركية. 6.5% ضرائب مفروضة على البضائع اللبنانية، وتأخير تسجيلها في الهيئة العامة للغذاء والدواء.
ملحقون بلا عمل
باستثناء مُتابعة العمل معهم من قبل وزارة الخارجية والمغتربين، فإن هذه المرّة الأولى التي تبحث إدارة لبنانية مع الملحقين الاقتصاديين في شؤون التجارة الخارجية. منذ 2018، راسل هؤلاء الوزارات المعنية، وقدّموا تقارير واقتراحات، وطلبوا مواعيد لمُقابلة وزراء ورؤساء هيئات، لكنهم قوبلوا بالتجاهل. فيما تعامل السفراء معهم كما لو أنّهم «مُنافسون»، فمنعوا مشاركتهم في لقاءات العمل أو صدور أي تقرير مُذيّل بتوقيع المُلحق، حتى تحول الملحقون إلى «مُعقّبي معاملات» يقتصر عملهم على الشقّ الإداري.