قد لا يصح في علم الاقتصاد تطبيق المقولة الرائجة عن العدل واللياقات الاجتماعية «أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً». فـ»الوقت هو المال»، على حدِّ ما قال أبرز مؤسسي الولايات المتحدة الاميركية بنجامين فرانكلين في أواسط القرن الثامن عشر. ولم تلبث مقولته تلك أن تحولت إلى قاعدة اقتصادية يعتمدها الملايين حول العالم. فالأساس إذاً، ينطلق من احتساب «تكلفة الفرصة البديلة»، أو ما يعني بعبارة أوضح الفائدة التي كان من الممكن أن تحصل عليها الدولة، لو لم تهمل فرصة تصحيح الأجور منذ أشهر طويلة. فهي فضلت الوقت على المال. ذلك على الرغم من أن المورِدين شحيحون بالنسبة إليها، ولو بنسبة متفاوتة لمصلحة المال رغم كل شيء.
الزيادة تخطاها الزمن سريعاً
على الأرض ظهر هذا الواقع جلياً في صدور مراسيم إعطاء تعويض إنتاجية لموظفي القطاع العام، وتعديل بدل النقل الموقت لهم قبل نحو أسبوع فقط من اليوم، تحديداً بتاريخ 28 تموز الفائت. الزيادات التي أتت بعد أكثر من شهر ونصف الشهر على الاضراب العام المفتوح، و10 أشهر على اقتصار حضور الموظفين إلى إداراتهم بيوم الاربعاء فقط من كل اسبوع، تخطاها الزمن بعد يومين فقط. فلم تكد الحكومة تقر رفع بدل النقل اليومي إلى 95 ألف ليرة، حتى أعلن «إتحاد نقابات السائقين وعمّال النقل في لبنان»، أن تعرفة النقل ضمن بيروت (السرفيس) أصبحت 50 ألف ليرة لبنانية. وذلك نتيجة عدم تنفيذ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الوعد الذي قطعه نهاية العام الماضي بدعم القطاع مادياً، وإعطاء السائقين البطاقة التمويلية، وإعفاء آلياتهم من رسوم الميكانيك والمعاينة. وعليه أصبح بدل النقل يقل بنسبة 5 في المئة عن الكلفة الفعلية لذهاب الموظف وإيابه من العمل داخل بيروت، فما بالنا بالقدوم من بقية الاقضية والمحافظات. هذا عدا عن أن ما أعطي اليوم كبدل نقل يقل بنسبة 55 في المئة عمّا كان يعطى في العام 2019. حيث كان بدل النقل اليومي قبل الازمة يعادل 8000 ليرة فيما تعرفة النقل داخل بيروت تحتسب 2000 ليرة.
معالجة النتائج
إذا أضفنا إلى ارتفاع بدل النقل، الزيادة الهائلة في كلفة اشتراك المولدات الخاصة المحتسبة على أساس 20 الف ليرة للكيلواط – ساعة، ودولرة الأقساط المدرسية، واحتساب دولار التغطية الصحية 6000 ليرة بالحد الاقصى، فيما يحاسب الموظف على سعر صرف السوق الموازية… لرأينا أن كل الزيادات المعطاة لموظَّفي القطاع العام من راتب إضافي وبدل انتاجية فقدت جدواها الاقتصادية. و»هذه هي العاقبة الطبيعية لاقتصار المعالجات على نتائج الازمة الاقتصادية مع تلافي معالجة الأسباب الجوهرية»، بحسب الباحث في الشؤون الماليّة والاقتصاديّة البروفسور مارون خاطر. فـ»اقتصار معالجة مشكلة القطاع العام على تدابير سطحيَّة كزيادة الرواتب لا يفيد إلا لشراء الوقت، مما يؤدي الى تفاقم الازمة فتسبق تداعياتها الاجراءات المتخذة بأشواط». وقد رأينا ذلك بوضوح في تخطي كلفة النقل زيادة بدل النقل من 8000 ليرة إلى 24 ألفاً في تموز 2021، ثم عادت وتخطتها مرة جديدة مع رفع بدل النقل إلى 64 ألفاً، وتخطتها اليوم مع الزيادة الثالثة إلى 95 ألف ليرة، وستتخطّاها غداً مهما كانت الزيادة المقرّة. فالمشكلة برأي خاطر هي أن «القطاع العام، هو بحد ذاته أحد مسببات الأزمة التي يعيشها البلد اليوم وإن كانت مطالب موظفيه محقَّة. فهو قطاع متخم، غير منتج، مليء بالفساد، ويعاني الزبائنية السياسيَّة والطائفية، ومن تحكّم مصادر القرار به. لذلك، وطالما أنَّ المعالجات لا تمتلكُ شجاعة الولوج الى عمق الازمة في القطاع العام، لتبقى مقتصرة على الشكل، فإنها لن تنجح في إيجاد حلول منطقيَّة ومستدامة. فالاقتصاد يسجل نمواً سلبياً ويعاني تضخماً هائلاً لأسباب داخلية، وخارجية ما يحتِّم البحث عن حلول شاملة».
التمويل بالطباعة
المشكلة الأخرى التي لا تقل خطورة عن المعالجات السطحية والمتأخرة، وتقع بمثابة «التيربو» (الشاحن التوربيني) لضغط الهواء في «محرك» الانهيار الداخلي وتسريعه، هي تمويل الزيادات من طباعة الأموال. ففي حين تقتضي المعالجات الجدية تفعيل الاجهزة الرقابية وتطهير الإدارات من الفساد، والعمل على زيادة الالتزام الضريبي ومنع التهرب، نرى أن العكس هو الذي يحصل»، بحسب خاطر. «فتأجيل الإصلاحات في القطاع العام، والاستعاضة عنها بضخ المزيد من الأموال المتأتية من طباعة الاموال أو زيادة الرسوم دفترياً مع العجز عن استيفائها، يدفعان نحو مزيد من التضخم وارتفاع الاسعار». البروفسور خاطر الذي يرى أن «الاكتفاء بالحد الادنى والسطحي من الاصلاحات المجتزأة والمتفرّقة على مختلف الأصعدة لا يعود بالشفاء على الاقتصاد المريض، لان الحل يجب أن يكون شاملاً»، يشدد على أن «أي حلّ يجب أن ينطلق من تأمين إستقرار سياسي وأن يعمل على تفعيل القطاعات المنتجة وعلى عودة الاستثمارات وزيادة الجباية بعد ضبط الحدود وبسط سُلطة دولة القانون والمؤسسات على كامل الأرض والبحر والجوّ. ينعكس ذلك حتماً زيادة بالايرادات وقدرة أكبر على التقديمات من دون الاضطرار إلى طباعة الاموال وزيادة الرسوم والضرائب، ومنها الدولار الجمركي المحبط للاقتصاد، والذي ستقتصر نتائجه على الزيادات الدفترية من دون القدرة على تحقيقها واقعياً».
ما يجري في لبنان على صعيد الإصلاحات، كل الإصلاحات، يدل على أمر من اثنين: إما تواطؤ مريب بين أركان السلطة لحماية بعضهم البعض الآخر من المحاسبة، والمحافظة على مصالحهم الخاصة ولو على «جثة» البلد والاقتصاد. وإما غباء مطلق. عدم القدرة على الجزم بين الفرضيتين، يقود خاطر إلى تأكيد «إذعان السلطة لشروط صندوق النقد الدولي وانصياعها التام لأوامره دون تفاوض حقيقي يظهر إلى العلن خصوصية الوضع اللبناني وصعوبة إقرار إصلاحات حقيقية من دون تبدلات جوهرية في السياسة». فمقابل هذا الإذعان، ومن أجل تسجيل إنجازات قد تكون وهمية، تسعى السلطة الحاكمة من وجهة نظره «إلى إقرار الإصلاحات بالشكل. وهذا ما لمسناه في «الكابيتال كونترول»، والموازنة العامة، والسرية المصرفية، وفي خطة التعافي وكذلك في ربط رفع الدولار الجمركي بالرواتب. فهناك عدم جدية في مقاربة الحلول، مع العلم المسبق أنه في ظل غياب الاستقرار السياسي لن يكون لبنان قادراً على إقرار هذه الإصلاحات، لان أياً منها يتطلب بسط سيادة الدولة على أراضيها. وعليه ما يجري القيام به هو تأمين مطالب الصندوق بالشكل وليس بالمضمون، ويجعل التفاوض بحد نفسه ونتيجته غير مقنعين للمراقبين ولسائر المواطنين.
دخلت المعالجات المرحلية لمأزق الرواتب والأجور والتقديمات الإجتماعية للقطاع العام في حلقة مفرغة. فعدا عن كون الإجراءات المتخذة من خارج عملية التصحيح الشاملة للمداخيل، ترقيعية ولا تدخل في صلب الراتب، فهي تأتي متأخرة كثيراً. حيث لا تلبث الأكلاف المعيشية، وأسعار النقل، واشتراكات المولدات والخدمات الصحية والتعليمية أن تتخطى التقديمات المالية بأشواط. فتصبح من دون جدوى سريعاً، ونعود إلى نقطة الصفر من جديد. وهكذا دواليك يستمر التعطيل العقيم.