ليس في علم الاقتصاد ما يمكن اعتباره ربحاً للجميع. إذ إن كلّ ربح لطرف ما سيكون على حساب طرف آخر. هنا دور السلطة في توزيع المنافع والخسائر. فهي تحتكر القوّة ضمن هدف أسمى يتعلق بحماية المجتمع وتنميته. وبالتالي يفترض أن تقرّر هي من يربح ومن يخسر، وكمية الخسارة والربح للطرفين. فعلى مدى 27 عاماً انتفعت فئات، وأثرت على حساب الآخرين، بتمويل من المال العام. أما اليوم، ومنذ ثلاث سنوات تحديداً، فهناك خسائر في القطاع المالي قيد التوزيع. هذه الخسائر هي الودائع، أو الأموال التي حصلت عليها المصارف من المودعين، ثم أقرضتها لمصرف لبنان، وبدوره بدّدها لتمويل المنتفعين والسارقين، على إدارة نموذج اقتصادي فاشل يقوم أصلاً على تبديد كل ما يأتيه من تدفقات مالية. فجأة، سقط الهيكل الاحتيالي مخلّفاً وراءه مصارف مفلسة لا يمكنها أن تدفع، ومصرفاً مركزياً بصافٍ سلبي لاحتياطات العملة الأجنبية، أي أنه غير قادر على الدفع، كحال المصارف.
وفي وقتٍ تهافت فيه المودعون على صناديق المصارف، نفّذت هذه الأخيرة قيوداً غير شرعية على حساباتهم وتحاويلهم. منحت هذه الخطوة شرعية للمحاسبة الشعبية المتمثلة في الهجوم على المصارف وتحطيم واجهاتها واقتحامها لاسترداد الودائع. أما القضاء فتقاعس عن بتّ كل الدعاوى التي أقيمت ضدّ المصارف، والسلطة لم تقم بما يخالف سلوكها التقليدي في حماية المصارف، وتبعها في ذلك مصرف لبنان بتعاميم احتيالية شرّعت القيود على الحسابات. فلا أُقرّ قانون للكابيتال كونترول، ولم تُنفّذ أي خطّة أو أي أجزاء منها لتحديد الخسائر وتوزيعها. ولم يُوضع قانون لضبط وحشية وانفلات القطاع المالي وإجباره على ممارسة وظيفة اقتصادية ذات معنى. بالعكس، كانت كل الخطوات تهدف إلى تعميم الفوضى، وجرّ المجتمع نحو قبول نتائجها. أما قوى المجتمع المدني، فانتقلت بغالبيتها نحو التنافس مع القوى السياسية التقليدية على حصّة من السلطة عبر حافز المودعين.
كل خطوة قام بها الطرفان برّرت بأنها تخدم المودعين، أما الخطوات الفعلية في توزيع الخسائر فهي تتم علناً بتعاميم مصرف لبنان وتعددية أسعار الصرف والتضخّم… ومن بين الخطوات العلنية تصنيف المودعين بين «مؤهلين» و«غير مؤهلين» الذي لا يأخذ في الاعتبار كل نتائج إدارة النموذج المفلس، بل ينحاز نحو تصحيحه على حساب الآخرين جميعاً. العامل في القوى العسكرية أو الإدارات المدنية الذي تقاعد أثناء الأزمة حصل على تعويضه شيكاً وفُرض عليه أن يضعه في حساب مصرفي لا يمكن تحويله إلى الدولار والسحب منه بسقف. هذا المودع تساوى مع حفنة لا تتجاوز 1% من المودعين لديهم مليارات الدولارات، أكثر من نصفها فوائد مصدرها المال العام. أموال صندوق الضمان الاجتماعي التي تفوق 12 ألف مليار ليرة، باتت قيمتها الفعلية اليوم 250 مليون دولار مقارنة مع 8 مليارات دولار سابقاً. ومثلها الـ 500 مليون دولار التي كان يملكها صندوق نقابة المهندسين (الآن هناك نقاش في تدفيع المهندسين 1200 دولار نقداً لتغطية التأمين الصحي)، وصناديق الأساتذة والمحامين وغيرهم… الآن مقصّ السلطة ولوبيات المجتمع المدني مستمرّ بذريعة «أموال المودعين».