الاقتصادان السوري واللبناني في اختبار صعب لتجاوز أزمات النقد

 تشهد كلٌّ من سوريا ولبنان مرحلة دقيقة من التحديات الاقتصادية، حيث تقف عمليتهما المنهارتان بسبب تراكم المشاكل الاقتصادية أمام اختبار صعب في ظل تفاقم أزمات النقد وتراجع الثقة بالقطاع المالي.

وبين مساعٍ حكومية لضبط أسعار الصرف وإجراءات نقدية متباينة، تحاول سلطات البلدين الحدّ من الانكماش الاقتصادي والضغوط المعيشية المتزايدة التي أثقلت كاهل المواطنين.

ويقول الخبراء إنه مع استمرار العجز في الموارد وقلة الدعم الخارجي المطلوب، يبدو الطريق نحو تحقيق الاستقرار النقدي الحقيقي طويلًا وشاقًا.

ولخص الخبير الاقتصادي بول كوكرين انطباعه عن تلك الحالة قائلا إن “خطط دمشق وبيروت لعملتيهما لن تشكل حلاً شاملاً للمشاكل المالية والاقتصادية الشاملة التي تواجهها الدولتان.”

وفي حين تساوي أكبر ورقة نقدية متداولة في سوريا فئة 5 آلاف ليرة، 0.38 دولار أميركي، تبلغ قيمة ورقة المئة ألف ليرة 1.11 دولار.

وتمتلئ الجيوب بالنقود، ويتجول السوريون حاملين حقائب صغيرة مليئة بالعملة لدفع ثمن حتى أصغر المشتريات. بينما تُستخدم الآلات الحاسبة على نطاق واسع لتحويل عشرات الآلاف إلى ملايين، أو لتقسيم الدفع بالعملة المحلية وبالدولار.

وقبل 14 عاما، عندما اندلعت الحرب، كان من الممكن أن تصل قيمة ورقة الخمسة آلاف ليرة إلى مبلغ كبير، عندما كان سعر الصرف 50 ليرة للدولار.

ولكن مع اتساع رقعة الصراع، وسحب البنك المركزي من احتياطياته الأجنبية وتراكم العقوبات على سوريا، بدأت الليرة في الانحدار التدريجي، حيث انخفضت بنسبة 99 في المئة، لتصل قيمتها اليوم إلى 13 ألف ليرة للدولار الواحد.

وفي لبنان، كانت الليرة مربوطة بالدولار الأميركي عند 1507.5 ليرة منذ عام 1997، حيث تعادل ورقة المئة ألف ليرة 66 دولار. وفي أعقاب الأزمة المالية في أكتوبر 2019، انخفضت قيمتها بنسبة 98 في المئة، ليصل سعر الدولار نحو 90 ألف ليرة.

وأدى هذا الانخفاض إلى حرمان اقتصادي شديد لغالبية اللبنانيين، حيث قضى على مدخراتهم ومعاشاتهم التقاعدية، وجعل رواتب القطاع العام شبه معدومة.

وارتفعت نسبة اللبنانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر من 40 في المئة قبل الأزمة إلى أكثر من 70 في المئة، بينما يعيش أكثر من 90 في المئة من السوريين في فقر.

وأعلنت الدولتان مؤخرًا عن تدابير لمعالجة أزمة العملات التي تكاد تكون معدومة. فقد طرحت بيروت فكرة إصدار أوراق نقدية أكبر، تصل قيمتها إلى مليون ليرة وهناك شائعات عن إمكانية إصدارها بقيمة تصل إلى 5 ملايين ليرة.

في المقابل سيقوم البنك المركزي السوري بحذف صفرين من عملتها في الثامن من ديسمبر المقبل، تزامنًا مع ذكرى الإطاحة ببشار الأسد.

ومع ذلك، لا يُتوقع بول كوكرين وهو صحفي مستقل يُغطي شؤون الشرق الأوسط وأفريقيا في تقرير نشرته منصة “عرب دايجست” وتقلت “العرب” نسخة منه أن تُسهم هذه الخطوات في حل أزمة العملة.

وقال كوكرين في مقاله “هذه الخطوات قد تزيد الطلب على العملات الأجنبية، وخاصة الدولار واليورو، في ظل حالة عدم اليقين الاقتصادي والأزمات المصرفية.”

وفي الواقع، كان الاقتصاد اللبناني مُدولرًا قبل الأزمة المصرفية، حيث تراوحت نسبة القروض المقومة بالدولار للقطاع الخاص بين 68 و89 في المئة من إجمالي القروض بين عامي 1997 و2019، بينما شكّلت الودائع بالدولار ما بين 61 و77 في المئة.

وكان الدولار يُستخدم على نطاق واسع، وكانت أجهزة الصراف الآلي تُقدّم الليرة والدولار معًا. واليوم، لا تسمح البنوك للمودعين إلا بسحب 400 دولار شهريًا من الحسابات المجمدة خلال الأزمة أو من حسابات “الدولار الجديد”، وهي التحويلات الواردة بعد الأزمة.

ومع ذلك، لاحظ كوكرين ازدياد الدولرة على المستوى التجاري، حيث تُسعّر السلع والخدمات عادةً بالعملة الأميركية بسبب التقلبات الهائلة وانخفاض قيمة الليرة، بالإضافة إلى التضخم المفرط.

وقال “إذا تحققت خطة إصدار أوراق نقدية أكبر من الليرة، فلن يكون لها تأثير كبير نظرًا للاستخدام الواسع للدولار، في حين يرغب الناس في الحصول على رواتبهم والادخار بالدولار نظرًا للمخاطر المستمرة لانخفاض قيمته.”

وتُستخدم الليرة اليوم بشكل رئيسي كعملات فكة صغيرة – العملات المعدنية الأميركية غير مقبولة – وبخلاف النفقات اليومية، سيرغب اللبنانيون في استبدال الليرة بالدولار أو اليورو أو الذهب – أي شيء ذي قيمة.

وقد يكون من الأنسب حذف أصفار متعددة وإعادة تقييم العملة، كما تنوي سوريا، لكن بيروت ليست في وضع يسمح لها بذلك، فهناك قضايا أكبر مطروحة، وهي إصلاح القطاع المصرفي الذي تسبب في انخفاض قيمة العملة في المقام الأول.

وفي حين أُقرّ قانون إصلاح وإعادة تنظيم القطاع المصرفي في أغسطس، والذي يوفر إطارًا لإعادة هيكلة و/أو تصفية البنوك، فإن القانون يعتمد على سنّ “قانون التسوية المالية واسترداد الودائع” (المعروف بقانون الفجوة).

ويهدف من وراء ذلك توزيع الخسائر وتعويض المودعين عن الأزمة المالية، والأهم من ذلك، التنفيذ الكامل لعملية إعادة الهيكلة.

ومع ذلك، فإن السياسيين، تحت ضغط من المصرفيين والحرس القديم، يؤجلون سنّ قانون الفجوة، الذي قد لا يُقرّ قبل الانتخابات العامة في مايو 2026، مما من شأنه أن يُؤجّل الإصلاح الجاد إلى مرحلة لاحقة.

ولذلك، “قد يُنظر إلى إصدار أوراق نقدية أكبر على أنه خطوة تجميلية إلى حد كبير في ظلّ وضع اقتصادي صعب،” بحسب كوكرين الذي يكتب في “نشرة غسيل الأموال.”

وإلى جانب الأزمة المالية والديون الضخمة، وُضع لبنان على القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي (فاتف)، الجهة العالمية المسؤولة عن وضع معايير مكافحة غسل الأموال في عام 2024، وفي يوليو على القائمة السوداء للاتحاد الأوروبي كدولة عالية المخاطر.

ويعتقد الصحفي الاقتصادي الإيطالي أن تطبيق الإصلاحات سيكون أمرًا أساسيًا لخروج لبنان من القوائم الرمادية، بالإضافة إلى إظهار جديته في سيادة القانون، ومحاسبة أصحاب السلطة.

3.07 مليار دولار قيمة الأموال خارج النظام المالي الرسمي في سوريا، بحسب بعض التقديرات

واستند في موقفه إلى إن إطلاق سراح رياض سلامة، حاكم البنك المركزي السابق، الذي اتُهم بالفساد واختلاس 42 مليون دولار في عام 2024.

وقال يوحي إطلاقه بكفالة قدرها 14 مليون دولار في سبتمبر الماضي، والتي ورد أنها دُفعت في أكياس نقدية بأن “الإفلات من العقاب بدلاً من المساءلة هو أسلوب عمل لبنان.”

وتواجه سوريا قضايا مماثلة للبنان. رغم تخفيف العقوبات المفروضة على سوريا، لا تزال على القائمة الرمادية لفاتف، وتواجه عقبات كبيرة أمام عودتها إلى النظام المالي الدولي واستعادة اقتصادها كامل طاقته.

وقدّر البنك الدولي مؤخرًا تكلفة إعادة الإعمار بنحو 216 مليار دولار، بينما قدّرت الأمم المتحدة أنه بمستويات النمو الحالية، لن يستعيد الاقتصاد مستوى الناتج المحلي الإجمالي الذي كان عليه قبل الصراع قبل عام 2080.

وقد يُفاقم رفع قيمة العملة من وطأة الأزمة المالية، نظرًا لارتفاع تكلفتها على المستوى الكلي، مع ما يصاحبها من آثار سلبية، مثل ارتفاع أسعار الفائدة وارتفاع التضخم، كما حدث في مصر عندما خفضت قيمة الجنيه في 2023 – 2024.

كما سيؤدي ارتفاع التضخم إلى ارتفاع تكاليف الاستيراد، وهو مصدر قلق كبير نظرًا لاعتماد سوريا على الاستيراد بسبب الدمار الواسع النطاق الذي لحق بقاعدة التصنيع.

وقد يلجأ السوريون أيضًا إلى استخدام العملات الأجنبية بشكل متزايد إذا لم يسر خفض قيمة العملة كما هو مخطط له ولم تستقر الليرة، سواءً بالليرة التركية في الشمال، أو باليورو والدولار عمومًا، أو حتى بالشيكل في الجنوب المحتل من إسرائيل.

وتشكل التكلفة المرتفعة لإعادة تقييم العملة عيباً رئيسياً في خطة دمشق، التي ربما كان من الأفضل لها أن تصدر أوراقاً نقدية من فئات أكبر وتؤخر إعادة تقييم العملة حتى يستقر الاقتصاد وينعش القطاع المصرفي.

ويبدو أن إزالة صورة الأسد، الأب والابن، من الأوراق النقدية ضرورية للغاية. كما أن تحسين الرقابة على العملة المتداولة، والتي تُقدر بنحو 40 تريليون ليرة (3.07 مليار دولار) خارج النظام المالي الرسمي، يُعدّ عنصرًا أساسيًا في خطة العملة.

مصدرالعرب اللندنية
المادة السابقةازدهار السياحة العالمية يصطدم بتحديات المناخ والتكنولوجيا
المقالة القادمةشروط تعجيزية للإعمار: إسرائيل تريد “جنوباً جديداً” بلا سكانه