اليوم وأكثر من أي وقتٍ مضى، تتكشف مغبّة الانزلاق التّاريخيّ للمنظومة الحاكمة في مستنقع الفساد الآسن: الشعب اللبناني الصاغر بات أشدّ قهرًا، وهشاشة وفاقة. الشلّل المؤسساتي العميم بات أكثر استنزافًا.. أما الفجور السّلطويّ فبات أقسى إجرامًا. والتعويل على شفقة الخارج وإحسانه بات الطموح العمومي لدى سواد المقيمين في لبنان.
ولما كانت هذه الحقبة الممتدة منذ حوالى الثلاث سنوات، والأحلك في تاريخ لبنان الحديث، هي المحصلة الحتميّة للتعثر الاستثنائيّ في نُظم الحماية الاجتماعية، المتزامن مع النهب والهدر الموصول للمال العام، وتراكم الفشل في إطار الحلول وطرح السّياسات المُعالجة، برزت الحاجة، لخلق شبكات دعم اجتماعية ومنح تمويلية، لتدارك وطأة الإفقار القسريّ لغالبية الفئات والطبقات الاقتصادية وتعاظم هشاشتها تباعًا، وتوفير إغاثة سريعة إلى العدد المتزايد من الأسر المحتاجة في خضم الاستفحال الطرديّ للأزمات متعددة الأبعاد.
وفيما لم تتلكأ المنظومة السّياسيّة طيلة العقود الماضية، عن تقويض الدور الاجتماعي للدولة، بغية استغلال حاجة المواطنين إليها، أغدقت هذه المنظومة ومنذ انطلاق التخطيط والتنفيذ لبرنامج شبكة الأمان الاجتماعي للاستجابة للأزمة، المزيد من العقبات لعرقلة تنفيذه، بدءًا من المساعي الحثيثة للدفع نحو صرف المساعدات بالليرة اللبنانية ثم لتخفيض الميزانية المخصصة لبرامج الدعم، أهمها “أمان” والبطاقة التمويلية، وصولاً للمماطلة في تنفيذ المشروع على مدار سنتين.
برامج الدعم
بتاريخ 16 تموز من العام 2021، صدر القانون 230 المتعلّق بالبطاقة التمويليّة الالكترونية، والذي كان قد أقرّه مجلس النواب آنذاك، بالتزامن مع رفع الدعم عن المواد الأساسية التّي تنوعت بين المواد الغذائية والمحروقات والأدوية، دعمًا للقدرة الشرائية للأسر اللبنانية. وعليه، فُتح باب تسجيل الطلبات لها أمام المواطنين، عبر منصة إلكترونية، بدءًا من مطلع كانون الأول من عام 2021، مع إعطاء صلاحية رقابة حُسْن تنفيذ المشروع للتفتيش المركزي. فيما تفرع برنامج الدعم هذا إلى جزئين ارتبط أولهما بشبكة “أمان” الاجتماعية والممولة من البنك الدولي، والجزء الآخر المتعلق بالبطاقة التمويليّة. وقد اُعتمدت منصة واحدة للشبكتين، على أن يتمّ فرز المسجلين فيهما على أساس شروط الاستحقاق.
والبطاقة التمويليّة كانت تستهدف أساسًا الأسر المحتاجة للدعم المادي في ظلّ التضخم الاقتصادي وواقع رفع الدعم عن السّلع والمواد الأساسية، من دون أن تكون بالضرورة من الأشد فقرًا. الأمر الذي يميزها عن شبكة “أمان” من حيث تغطية البطاقة لشريحة أكبر من اللبنانيين. بينما يشمل برنامج “أمان” عددًا محدوداً من الأسر (150 ألف أسرة من الأشدّ فقرًا). لكن مع تعسر تمويلها من صندوق النقد الدوليّ، توقف العمل مؤقتًا بالبطاقة. الأمر الذي يبرّره مصدر رسمي مطلع في وزارة الشؤون الاجتماعية بواقع فرض البنك الدولي شرط التزام الحكومة اللبنانية بالإصلاحات المطلوبة منها. وبظلّ تخلف الحكومة عن القيام بهذه الإصلاحات، امتنع البنك عن تسيير قرض لتمويل البطاقة. فيما بقيت شبكة “أمان” الممولة بقرض من البنك الدولي وقيمته 246 مليون دولار. ويقدّم برنامج شبكة الأمان الاجتماعية، أو “أمان”، مبلغاً شهرياً قدره 20 دولاراً أميركياً لكل فرد من أفراد الأسرة، على أن يكون الحد الأقصى للأفراد المستفيدين ستة أفراد، بالإضافة إلى مبلغ ثابت بقيمة 25 دولاراً أميركياً للأسرة الواحدة.
الفئات الأكثر هشاشة
تستغرب ناهدة ج. في حديثها مع “المدن” لكونها من أولى المتقدمين بطلبات على منصة “أمان”، وهي الأرملة الخمسينية والمُعيلة الوحيدة لوالدتها السبعينية المقعدة، عدم استحصالها على أي من المساعدات التّي يقدمها البرنامج إلى الآن، بالرغم من كونها من الأشدّ فقرًا حتّى قبل الأزمة، قائلةً: “في البداية تابعت قليلاً أخبار ومستجدات الشبكة، وعلمت أن بمقدوري الاستفسار عبر الخط السّاخن للتفتيش المركزيّ. بعد مدّة وجيزة اتصلت بهم فعلاً للاستفسار عن وضع طلبي فسألتني الموظفة عن اسمي قائلة “ما تعتلي هم، الكومبيوتر يختار الأسماء، ودورك قريب، وسيقوم المندوبون بزيارتك فورًا”. انتظرتهم شهرين كاملين. وبعدها علمت أن المندوبين الذي تحدثت عنهم الموظفة جاؤوا للاستطلاع عن أحوال جيراني الميسورين والمتحزبين، من دون المرور عليّ. وبعد فترة تم قبول طلبهم وتلقوا المساعدة وما زالوا يتلقوها. اتصلت مجدّدًا فقالوا لي:” سيأتي دورك بالدفعة الثانية”. وحتى اليوم ما زلت أنتظر”.
بالتزامن مع انطلاقة برامج الدعم هذه، راج الحديث عن استنسابية ولاعدالة في انتقاء المستفيدين منها، فضلاً عن تُهم وجهت للمعنيين فيها بالتواطؤ مع بعض السياسيين، الذين حاولوا التأثير على تصميم قاعدة البيانات المستخدمة لتحديد المستفيدين، بهدف التحكّم وفقاً لتقديرهم الخاص باختيار المستفيدين من المساعدات، ولما كان من مألوف السّلطة الحاكمة أن تنتهج مسلك الفساد هذا، والمنوط بنيّتها قطف مثل هذه المساعدات وتوزيعها على مناصريها، وبيّد أن المواطن الفاقد لثقته بدولته، سيعمد تلقائيًا لاعتبار أن هذه المساعدات سيشوبها النمط نفسه من التحاصص الحزبي والطائفي.
ولدى سؤال “المدن” أحد المسؤولين رفيعي المستوى في وزارة الشؤون الاجتماعية (التّي يترأس وزيرها اللجنة التقنية والمنظمة لشبكة أمان إلى جانب عدد من الوزرات ومراقبين من صندوق النقد) عن صحة القول الذي يُفيد بأن بعض المستفيدين من الدعم هم من غير المستحقين لها يجيب المصدر قائلاً: “نسمع الكثير من الانتقادات التّي تطال نزاهة عملنا، بحجة أن المساعدات لا تصلّ لكافة المتقدمين، لكن من الجليّ منذ انطلاقة البرنامج أنه مخصص للأسر والأفراد الأشدّ فقرًا، ولا مال يكفي لـ580 ألف أسرة تقدمت بطلباتها على المنصة بعد شهرين من فتحها. ولعله من المفهوم أن يعتبر البعض أنه بفعل الأزمة قد انحدر حاله إلى مستوى الحاجة الاقتصادية ويستحق المساعدة، إلا أن المساعدة هذه مخصصة فعليًا للأكثر فقرًا ضمن 150 ألف عائلة فقط، على عكس البطاقة التمويليّة. وعليه، وبعد تقييم الاستمارات على أساس الاستحقاق فضلاً عن الجانب التقني، تبقّى حوالى 200 ألف استمارة، وتم ارسال لجان من الوزارة والجمعيات والمنظمات غير الحكومية لتتولى الزيارات المنزلية لتقييم وضع الأسر المستفيدة والتأكد من تلبيتها المعايير الموضوعة، ومن بعدها بدأت عملية التقييم على أساس الزيارات. وكل هذه العملية ممكننة ويُشرف عليها مراقبون من البنك الدوليّ من بدايتها حتّى لحظة تقديم المساعدات”.
شبكة أمان
ويُضيف المصدر مؤكدًا على بيان وزير الشؤون الاجتماعية هكتور حجار الصادر منذ حوالي الأسبوع: “منذ البدء بتنفيذ برنامج أمان ولغاية آخر شهر آذار 2023، بلغ عدد الأسر اللبنانية المستفيدة من برنامج أمان 80304 أسرة، وكنا قد أعلنا عن التجديد للمستفيدين القدامى لمدة 6 أشهر إضافية، بعد أن كان البرنامج مصمماً للاستفادة منه لمدّة عامٍ واحدٍ فقط. كما أعلنا سابقاً بأننا استناداً للتوصيات المتكررة للجنة الوزارية لبرنامج أمان بتوسيع مروحة المستفيدين، نظراً للظروف الاقتصادية الصعبة، وبعد مشاورات مع الشركاء وبالتنسيق مع البنك الدولي، بادَرنا إلى تقديم اقتراح إلى الرئيس نجيب ميقاتي وحصلنا على موافقته الاستثنائية على استفادة عدد أكبر من الأسر الأكثر فقراً وفقاً للمعايير التالية: الأسر الصغيرة، ذوي الاحتياجات الخاصة، وكبار السن. وهي الفئات التي كانت قد تسجّلت وتمّت زيارتها وخضعت لتقييم ما بعد الزيارة للتأكّد من أحقيّتها من الاستفادة، وبعد هذه الموافقة الاستثنائية، سيستفيد 10459 أسرة لبنانية جديدة من البرنامج، على أن يبدأ الدفع لها آخر شهر أيار 2023. إذاً، تنفيذ برنامج أمان مستمر بهدف الوصول إلى 150 ألف أسرة لبنانية من الأكثر فقراً”.
ويستطرد قائلاً: “بعد مضيّ عامين على إطلاق شبكة أمان، نجح المشروع أخيراً في الوصول إلى الأسر الأكثر فقراً التّي تنال المستوى الأمثّل من الدعم بما أن المساعدات تقدم حصرًا بالدولار. ونحن نطمح لاحقًا لتمكين هذه الأسر ومساعدتها في النهوض لا الاكتفاء بتقديم المساعدات الماليّة لها”. أما عن حرمان القطاع العام والعسكريين والقوى الأمنية من المساعدات الاجتماعية التّي تقدمها الشبكة، فيشير المصدر لافتًا لكون القرار الصادر عن رئاسة الحكومة قد منع تسجيل هؤلاء في الشبكة خصوصاً العسكريين منهم، لأن مساعدات خارجية ستقدم لهم.
في ظلّ غياب الإصلاحات الفعلية لحوكمة نظم الحماية الاجتماعية وأطرها، وتعثر أجهزة الاستجابة الجادّة للأزمات، بات الوصول إلى الحقوق، وتحديدًا الحقوق والخدمات الاجتماعية والاقتصادية، إقصائي ومرتبط بصورة مباشرة بالوضع والإمكانيات الماديّة، وغنيّ عن الذكر أن هذا الواقع حمّل سواد اللبنانيين إلى اللجوء إلى أساليب سلبيّة للتكيّف مع تدهور أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، ما يؤدي طرديًا لتفاقم نقاط ضعفهم وهشاشتهم على مختلف الصعد. وإن كان من المتوقع والبديهي أن يكون لأي مشروع دعم ممول، موطئ قدم للاستثمار فيه سياسيًا وعرضة لتدخل المنظومة الحاكمة. وهذا ما يجعل موقف لبنان الصعب أساسًا أكثر صعوبةً أمام المجتمع الدوليّ الممول.