لم يكن خروج فروع المصارف اللبنانية من أسواق خلف البحار التي انتشرت فيها إلا مسألة وقت. بعض البنوك باعت طواعية لتلبية متطلبات الرسملة داخلياً، كبنك لبنان والمهجر في مصر. البعض الآخر أجبر على الانسحاب كما في العراق وقبرص نتيجة تشدد مصارفها المركزية بشروط الامتثال لمتطلبات المخاطر على الايداع والاقراض. ما يعني اللبنانيين عموماً، والمودعين خصوصاً ليس خسارة الاستثمارات الخارجية، بقدر انعكاس هذه البيوعات على مصير ودائعهم من جهة، وإمكانية تأثيرها على سعر الصرف من جهة ثانية.
كان من الواضح في نهاية العام 2020 أن الازمة اللبنانية أخذت المنعطف الخاطئ. وقد أيقن الخارج، كما الداخل، إن خروج البنوك من محنتها متعافية مهمة شبه مستحيلة. فأجبر “المركزي” القبرصي فروع البنوك اللبنانية العاملة على الجزيرة، والتي تعود إلى 9 مصارف (بنك بيروت، بيمو، البحر المتوسط، بنك بيروت والبلاد العربية، لبنان والمهجر، بيبلوس، الاعتماد اللبناني، لبنان والخليج، و أنتركونتيننتال) إلى تكوين احتياطيات الزامية تماثل 105 في المئة من إجمالي ودائعها. كما فرض رسماً سنوياً بنسبة 5 بالالف على هذه الضمانات. هذه الشروط القاسية على كفاية رأس المال CAPITAL ADEQUACY التي تهدف إلى عدم امتداد الحريق اللبناني إلى السوق القبرصية، كبلت عمل المصارف واعدمت فرص جذب الودائع وحتى الاقراض. ومع فشل كل المحادثات التي كان فيها “المركزي” اللبناني طرفاً، اضطرت جميع البنوك اللبنانية إلى الانسحاب من السوق القبرصية.
المودعون لن يستفيدوا
من الناحية النظرية يبدو أن “لملمة المصارف اللبنانية نفسها في الخارج أمر إيجابي بالنسبة إلى جمهور مودعيها بالداخل. حيث ترتفع فرص التعويض عن خسائرهم نتيجة تحسن وضع المصارف المالي. إنما من الناحية العملية يعتبر هذا الخروج ضاراً جداً”، بحسب المستشار المالي د. غسان شماس. “إذ على عكس شقيقاتها في الداخل التي تحولت مع مصرفها الأم إلى “صراف آلي” (ATM) هائل، دوره محصور بسحب الودائع بقيم غير حقيقية، ما زالت الفروع في الخارج تعمل بشكل طبيعي. وبتوقفها تخسر المصارف فرص ممارسة عملها الطبيعي بجذب الودائع والإقراض، كما تخسر مراكزها الاساسية في الداخل ضخ تحويلات جديدة بالعملات الصعبة؛ هذا من دون أن نتحدث عن الخسارة المعنوية التي ستمنى بها”.
خلافاً لما يعتقده الكثيرون، أو ما يحاول البعض تسويقه عن سوء نية أو عن عدم معرفة، فان “البنوك عندما تخرج من سوق ما، لا تقوم بـ”سواب” بين مطلوباتها وموجوداتها، أو ما يعني إرجاع الودائع وتحصيل القروض و”إطفاء الأضواء”، والخروج. إنما تبيع الأسهم المضافة إلى الاسم التجاري للمصرف”، يقول شماس. و”الفرق بين الطريقتين كبير جداً. فالاولى عملية محاسبية دفترية صرف تضمن استرجاع البنك للفرق بين الأصول والخصوم، فيما الثانية تجارية قيمتها أعلى بما لا يقاس”. إلا أن الفرق بين القيمتين الدفترية والتجارية لن يذهب إلى المودعين، إنما إلى حملة الاسهم، أي بعبارة أخرى “لاصحاب المصرف الذين تحملوا المخاطر”، برأي شماس. و”لا سيما مع انتهاء مفاعيل العمل بالتعميم 154 في شباط من العام الماضي، والذي قضى بزيادة رأسمال المصارف بنسبة 20 في المئة، وإعادة تكوين ما يوازي 3 في المئة من قيمة الأموال المودعة لدى المصارف في حساباتها لدى المصارف المراسلة في الخارج.
فرض الرسملة داخلياً
في المقابل فان المساهمين الذين سيجنون ملايين الدولارات من صفقة البيع هذه مدينون بالداخل. وفي ذمتهم حقوق لآلاف المودعين نتجت عن استخدام الودائع بتوظيفات عالية المخاطر مع دولة فسادة ومشكوك بقدرتها على إرجاع الدين. وفي هذه الحالة يصبح لزاماً اتخاذ تدبير من اثنين بحسب شماس: إما إقرار قانون يفرض على المصارف البائعة استخدام العوائد في الرسلمة الداخلية، أو إصدار تعميم ملزم من مصرف لبنان في هذا الخصوص. عدا ذلك فان “الرأسمال المباع سيدخل من وجة نظر شماس في حساب المساهمين وليس المودعين، من دون المعرفة على وجه الدقة بحسب الصفقات الحقيقية، وذلك “نتيجة اختلاف الوضعية القانونية لكل مصرف في الخارج على حدة، وإن كان مملوكاً بالكامل من الداخل أم هناك شراكات أجنبية”. وما يؤكد على هذه الفرضية التسويق باقفال فروع المصارف في الخارج بما يثير من دلالات على بيعها لقيمتها الدفترية وليس التجارية، ويحمل على الشك بتهريب فرق القيمة إلى الخارج”.
في العراق أيضاً
بالتزامن، وعلى عكس ما يحصل في قبرص تقدمت ثلاثة مصارف في العراق من أصل 10 عاملة، وهي: ميد بنك، فرنسبنك والاعتماد اللبناني بكتاب إلى “المركزي” تعلمه فيه باقفالها. حيث تنوي البنوك الثلاثة بيع كياناتها المصرفية في سياق تصفية طوعية. واللافت في العراق أن فروع المصارف اللبنانية تتجه للاقفال وليس البيع. حيث أعلمت زبائنها لاستلام ودائعهم وطالبت الدائنين بتسديد ديونهم.
العلاقة مع سعر الصرف
تجمّع الاحداث مع بعضها البعض، في نفس التوقيت يدعو إلى افتراض تأثيرها السلبي على سعر الصرف الآخذ في التحليق. فابتداء بصعوبة تمرير الاستحقاقات الدستورية، مروراً بالصراع المحتدم بين البنوك والحكومة على خلفية خطة التعافي المالية، ووصولاً إلى إقفال فروع المصارف اللبنانية في قبرص، عوامل كلها سلبية من الناحية النظرية على سعر الصرف. إنما فعلياً فان ما نشهده اليوم يعود إلى أمرين برأي شماس:
الاول معنوي، حيث أن سعر السوق الموازي اليوم الذي تخطى 36 ألف ليرة هو سعر سياسي بالدرجة الاولى، تخفيضه مرتبط بتراجع الهجوم على حاكم “المركزي”. ولا سيما مع ما تشهده المرحلة التي أعقبت الانتخابات النيابية من تطورات تغييرية تطالب برأس الحاكم كأولوية.
الثاني عملي، ويتلخص بضخ مصرف لبنان في خلال شهر واحد حوالى 2200 مليار ليرة ستتحول حتماً إلى طلب على الدولار بشكل مباشر وغير مباشر.
الانفلاش الهائل بالكتلة النقدية بالليرة يمكن الاستدلال عليه من خلال طبعة الـ 100 ألف الجديدة المتداولة في السوق. كما لا يمكن تفسير تمديد العمل بالتعميم 161 القاضي بتبديل الليرة بالدولار من دون سقوف لمدة شهرين، بعدما كان يمدد العمل به كل شهر بشهره، إلا محاولة يائسة من “المركزي” لـ”لمّ” الفائض من الدولار الناتج عن الانتخابات النيابية.