تتصاعد حدة الأصوات التي تحذر من المخاطر المحيطة بالقطاع المصرفي الأميركي في الآونة الأخيرة. ورغم هدوء الاضطرابات المصرفية التي ظهرت في شهر آذار الماضي، أبدى العديد من المؤسسات الدولية قلقه بشأن وضع البنوك الأميركية التي تعاني ضغوطاً على الأرباح ومخاطر القروض السيئة.
خفض وتحذيرات
حذر «كريس وولف» المحلل في «فيتش ريتينجز» من أن الوكالة قد تضطر لخفض تصنيف عشرات البنوك الأميركية، ما قد يشمل بنوكاً مثل «جيه بي مورغان تشيس». وأوضح المحلل أن قيام «فيتش» في شهر حزيران الماضي بتخفيض تقييمها لوضع القطاع المصرفي مر دون ملاحظة إلى حد كبير، لأن ذلك لم يتسبب في خفض التصنيف الائتماني للبنوك.
ذكر «وولف» أن قيام الوكالة بخفض تقييم القطاع المصرفي من «إيه إيه-» إلى «إيه+» سيجبر «فيتش» على إعادة تقييم كل من البنوك السبعين التي تغطيها الوكالة. و قبل أيام مضت، خفضت وكالة «موديز» التصنيف الائتماني لعشرة بنوك صغيرة ومتوسطة الحجم، مع وضع مصارف أخرى قيد المراجعة السلبية. والوكالة خفضت تصنيف بنوك تشمل «إم آند تي بنك» و»بي أو كيه فاينانشال» و»ويبستر فاينانشال» و»بيناكل فاينانشال». كما وضعت «موديز» ستة بنوك كبرى مثل «بنك أوف نيويورك ميلون» و»يو إس بانكورب» و»ستيت ستريت» و»تراست فاينانشال» تحت المراجعة لاحتمالية خفض التصنيف. وعدلت «موديز» أيضاً النظرة المستقبلية لـ11 بنكاً محلياً آخر من مستقرة إلى سلبية.
مخاوف بشأن الأرباح والقروض
رغم المخاوف التي أثارتها وكالتا التصنيف الائتماني، أشارت «موديز» إلى أن النظام المصرفي الأميركي لا يزال قوياً. وقالت «آنا أرسوف» مديرة المؤسسات المالية في «موديز» إن الوكالة أشارت إلى بعض الرياح المعاكسة، لكنها لا تقول إن النظام المصرفي معطل. ذكرت «أرسوف» أن البنوك ستجد صعوبة أكبر في جني الأموال، لأنها تعاني مع معدلات الفائدة وتكاليف التمويل المرتفعة والركود الذي يلوح في الأفق والذي سيؤثر على الأرباح. وأضافت: «هذه قصة ربحية إلى حد كبير، نحن لا نثير مخاوف كبيرة من أن النظام يعاني نقصا كبيرا في رأس المال أو نقص التمويل».
و تكبدت البنوك الأميركية خسائر تقارب 19 مليار دولار جراء القروض المتعثرة في الربع الثاني من 2023، مع ارتفاع معدلات التخلف عن السداد بين المقترضين عبر بطاقات الائتمان والعقارات التجارية. وارتفعت الخسائر على القروض التي تم تصنيفها على أنها غير قابلة للاسترداد بنسبة 17% على أساس فصلي و75% على أساس سنوي، لتبلغ نحو 61 سنتاً من كل 100 دولار تم إقراضه، وهو أعلى مستوى منذ الربع الثاني من 2020. وتستعد البنوك الأميركية لاستمرار ارتفاع خسائر القروض، حيث بلغت المخصصات الإضافية في الربع الثاني من هذا العام نحو 21.5 مليار دولار.
وذكر محللان في وكالة «موديز» أن البنوك الأميركية تواصل التعامل مع مخاطر معدلات الفائدة وإدارة الأصول والالتزامات، مع ما يترتب على ذلك من آثار على السيولة ورأس المال.
ثمن الحفاظ على الودائع
تعرضت البنوك المحلية الأميركية لأزمة في وقت سابق من هذا العام، بعد أن تسبب انهيار «سيليكون فالي» و»سيجنتشر بنك» و»فيرست ريبابليك» في تدافع العملاء لسحب ودائعهم. واضطرت البنوك الأميركية لدفع فوائد أعلى للعملاء على ودائعهم، بوتيرة تتجاوز النمو في إيرادات المصارف من القروض.
وعادة ما تزدهر أعمال البنوك عندما ترتفع معدلات الفائدة، حيث يتم فرض تكلفة أعلى بشكل سريع على القروض، بينما تتحرك المصارف ببطء لرفع الفوائد المدفوعة للمودعين، ما يعزز هوامش الإقراض ويزيد ربحية النشاط الأساسي.
لكن «أرسوف» أوضحت أنه بعد أزمة الاضطرابات المصرفية في آذار الماضي، سعت البنوك للحفاظ على الودائع، لكن ذلك تم بثمن مرتفع من خلال زيادة الفوائد المدفوعة للعملاء. وعكست نتائج أعمال البنوك عن الربع الثاني من العام الجاري زيادة تكاليف الودائع مقارنة بعوائد الأصول، وارتفاع المخصصات، واستمرار الضغوط التضخمية على المصروفات غير المرتبطة بالفائدة. وكانت نتائج أكبر 20 بنكاً أميركياً في الربع الثاني من 2023 أضعف على أساس فصلي وسنوي. وانخفض صافي الدخل لأكبر 20 بنكاً أميركياً بنسبة 7.9% في الربع الثاني على أساس فصلي، بينما ارتفع إجمالي صافي الدخل 4.9% مقارنة بنفس الفترة قبل عام. وتتوقع «فيتش» استمرار الضغط على صافي هوامش الفائدة ولكن بوتيرة أبطأ خلال ما تبقى من العام الحالي.
مخاطر العقارات التجارية
تحذر «موديز» من اتجاه جودة الأصول للانخفاض من مستويات قوية لكنها غير مستدامة، مع وجود مخاطر خاصة في محافظ العقارات التجارية لبعض البنوك. وتتراجع قيمة المكاتب في الولايات المتحدة بفعل انتشار سياسة العمل عن بعد منذ ظهور وباء «كورونا»، ما يثير المخاوف بشأن الخسائر المحتملة للبنوك التي تمول العديد من صفقات العقارات التجارية. ترى «موديز» أن معظم البنوك المحلية تشهد رأسمالاً تنظيمياً منخفضاً نسبياً مقارنة بالبنوك الأميركية الكبرى ونظرائها حول العالم. وارتفعت خسائر القروض المرتبطة بالعقارات التجارية بأكثر من الضعف في الربع الثاني على أساس فصلي لتسجل 1.17 مليار دولار، وهو أعلى مستوى منذ أكثر من عقد.
و قال «ديفيد سميث» المحلل في «أوتونوميوس ريسيرش» إن العقارات التجارية تعتبر واحدة من النقاط المحورية للمستثمرين، حيث إن هذا القطاع يمثل أحد أكبر عوامل المخاطرة للبنوك في الوقت الحالي.
الأسوأ لم يأتِ بعد؟
حذرت «موديز» من أن البنوك التي تعاني خسائر كبيرة غير محققة لم يتم تسجيلها من خلال نسب رأس المال التنظيمية الخاصة بها قد تظل عرضة لخسائر مفاجئة في السوق أو تراجع لثقة المستهلكين في بيئة معدلات الفائدة المرتفعة. ورفع الاحتياطي الفيدرالي معدلات الفائدة إلى نطاق 5.25% و5.5%، مقارنة بمستوى قرب الصفر في آذار 2022. وتوقعت «موديز» تفاقم مخاطر إدارة الأصول والالتزامات في البنوك بسبب الزيادة الكبيرة في معدلات الفائدة والخفض المستمر في احتياطيات النظام المصرفي بسبب التشديد النقدي. كما حذرت وكالة «فيتش» من أن أداء البنوك الأميركية سيشهد مزيدا من التحديات في النصف الثاني من هذا العام، مع بطء النمو بفعل ارتفاع تكاليف التمويل والائتمان.
وتقلص معدلات الفائدة المرتفعة قيمة السندات والقروض ذات الفائدة الثابتة للبنوك الأميركية، كما أن مخاطر معدلات الفائدة تعتبر غير مسجلة بشكل جيد في لوائح البنوك، وبالتالي يمكن أن تتسبب في مخاطر على السيولة. وأشارت «موديز» إلى أن البنوك المحلية معرضة للخطر بشكل أكبر، لأن رأسمالها التنظيمي منخفض نسبياً. وحذرت الوكالة من أن المخاطر قد تكون أكثر وضوحاً إذا دخلت الولايات المتحدة في حالة ركود، لأن جودة الأصول ستزداد سوءاً وتزيد من احتمالية تآكل رأس المال.
و بالنظر إلى ضغوط التمويل على القطاع المصرفي الأميركي، من المحتمل أن يكون هناك تشديد في شروط الائتمان وزيادة خسائر القروض للبنوك الأميركية. و قالت «جيل سيتينا» المدير المشارك في وكالة «موديز» إنه في الفترة المقبلة، لا يبدو أن الضغط الناجم عن ارتفاع معدلات الفائدة وتشديد السياسة النقدية يقترب من التراجع. وتتصاعد احتمالات تراجع أرباح البنوك في الفصول المقبلة، حيث إنه مع تدهور الاقتصاد، سيتأخر المزيد من المقترضين عن سداد مدفوعات القروض قبل أن يتعثروا في النهاية. وتتجه تكاليف الائتمان للارتفاع في المصارف الأميركية خلال الفترة المقبلة، خاصة في مجالات مثل قروض المستهلكين والعقارات التجارية. كما تتجه هوامش أرباح البنوك للهبوط، مع حقيقة أن المصارف تدفع معدلات فائدة أعلى للعملاء من أجل الاحتفاظ بالودائع. ويرى محللو «مورغان ستانلي» أن البنوك الخاضعة للتدقيق ستضطر على الأرجح إلى دفع معدلات فائدة أعلى عند إصدار الديون، ما سيزيد من الضغط على هوامش الأرباح.
ويخشى اقتصاديو البنك الاستثماري من أنه على المدى المتوسط، يبرز القلق بشأن قدرة البنوك المحلية على الوصول إلى أسواق رأس المال، مع احتمالية تجنب المستثمرين بشكل كامل عمليات إصدار السندات من بعض المصارف.
(المصادر: أرقام – موديز – فيتش – رويترز – فاينانشال تايمز – فاكتسيت – سي إن بي سي – فاينانشال تايمز)