“الترقيع” ببطاقات التموين لا يستر “تجويع” اللبنانيين

ما لم يهرّب من السلع المدعومة فُقد من الاسواق: صورة تعبّر عن أزمة نقص المحروقات (فضل عيتاني)
الهروب إلى الأمام أعمى بصر وبصيرة المسؤولين. رأوا عن بُعد أفخاخ سياساتهم المرتكزة على وهم دعم السلع والمنتجات مرسومة امامهم. وبدلاً من التوقف وتغيير المسار زادوا السرعة، فكانت للوقعة، بعد ان علقت أقدامهم في شباك الدعم، آثار مدوية، من الصعب أن تقلل من زخمها “رشوش” البطاقات التموينية.

“فأس” رفع الدعم وقع على “رأس” الفئات الأضعف. صحيح ان “مشوار” الدعم الذي بدأ في تشرين الاول من العام الماضي مع التعميم رقم 530 لم ينتشل “الزير من البير”، إلا انه أبقى أسعار بعض السلع الغذائية والبنزين والطحين والخبز والدواء مستقرة نسبياً. الامر الذي “لجم” أسعار بقية الخدمات والمنتجات وحد من ارتفاعها بشكل جنوني. في المقابل كان معلوماً للجميع ان هذا الدعم سيتوقف عاجلاً ام آجلاً، ليس بسبب استنفاده احتياطي “المركزي” من العملات الاجنبية فحسب، إنما بسبب الفوضى التي ترافق الدعم أينما وجد. هذه الفوضى تجلت في لبنان بأبشع صورها، وأدت على مدار عام إلى ارتفاع معدلات التهريب إلى سوريا وفقدان المواد المدعومة واصطفاف المواطنين في طوابير امام الافران والمحطات، مقابل مراكمة بعض التجار الثروات على حساب الفقراء. إلا انه كما كل شيء في لبنان، فان المعرفة المسبقة للمخاطر، لم تجنّبنا كأس رفع الدعم المرة، ولم يظهر لغاية اللحظة خطة واضحة وصريحة لكيفية التعامل مع مخلفات رفع الدعم، في بلد أصبح اكثر من 60 في المئة من سكانه تحت خط الفقر.

الكوبونات بديلاً عن الدعم

“رفع الدعم والانتقال إلى الحل البديل المتمثل باعطاء الاسر الفقيرة وأصحاب السيارات العمومية “كوبونات” مالية، كان يجب أن يبدأ من شهر آذار الفائت”، يقول الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين. “فالدعم العشوائي لـ 6 ملايين لبناني استهلك الاحتياطي في غضون أشهر قليلة، في حين ان تخصيصه بشكل مباشر لنحو 500 الف مواطن محتاج كان مد اجله إلى أكثر من عامين”. وبرأي شمس الدين إن “البرنامج الوطني بشكله الحالي يتضمن دعماً مباشراً لـ 15 الف أسرة، ودعماً جزئياً لـ 45 الفاً أخرى”. أما بخصوص البنزين فبإمكان الوزارات المعنية تخصيص كوبونات بسعر مدعوم لسائقي السيارات العمومية وللمؤسسات ولاصحاب السيارات الصغيرة، في حين انه بامكان الاغنياء الشراء بسعر السوق. وبحسب شمس الدين ان “تأتي هذه الخطوة متأخرة خير من ألّا تأتي. خصوصاً بعدما أثبتت سياسة الدعم الشامل فشلها الذريع”.

الدولار يتجاوز 15 الفاً

المنطق السليم الذي يحكم استبدال الدعم ببطاقات تموينية مباشرة يصطدم بحتمية ارتفاع الاسعار إلى معدلات قياسية، أحد لم يمتلك الجرأة لتقديرها بعد. فبمجرد وقف الدعم على المشتقات النفطية والقمح والدواء سيرتفع الطلب على الدولار في السوق السوداء إلى نحو 8 مليارات دولار سنويا أو ما يعادل 500 مليون شهرياً. وهو ما سيرفع الدولار نتيجة نقص العرض بالمقارنة مع الطلب. أما إذا أضفنا إلى رفع الدعم عن السلع الثلاث التوقف عن تمويل السلة الغذائية المؤلفة من 300 سلعة على سعر 3200 ليرة فسيرتفع الطلب على الدولار شهرياً إلى رقم يتراوح بين 800 ومليار دولار. الأمر الذي يفقد الليرة قدرتها الشرائية بشكل كبير، ويجعل من صرفها امام الدولار ينخفض إلى 15 الفاً أو أكثر. هذا الواقع سيجعل من البطاقات المعطاة بالليرة اللبنانية بلا قيمة مهما كان حجم الاموال الموضوعة فيها. فالمليون ليرة قد تصبح تساوي 50 دولاراً لا تكفي فعلياً ثمناً للخبز فقط لمدة شهر.

الإصلاح هو المنطلق

أمام هذا الواقع السوداوي يرى المدير التنفيذي لشبكة المنظمات غير الحكومية العربية للتنمية زياد عبد الصمد ان “لا حلول ناجعة من دون إصلاح حقيقي”. لكن اليس الاصلاح الهادف إلى تصفير العجز في الموازنة، أو أقله تقليصه بالنسبة للناتج المحلي الاجمالي إلى 100 في المئة، بدلاً من 180 في المئة يمكن ان يفاقم الاكلاف على الطبقات الفقيرة؟ الا يفترض بمثل هذا الاصلاح رفع الدعم عن السلع والخدمات ومنها الكهرباء، وتحرير سعر صرف العملة وتقليص نفقات القطاع العام والاستغناء عن عدد كبير من الموظفين؟ يجيب عبد الصمد بالنفي القاطع لان “مسببات العجز التي هي بحاجة إلى معالجة تتوزع على أربعة أبواب رئيسة وهي: نفقات القطاع العام والتي بمعظمها عبارة عن رواتب وأجور، خدمة الدين، عجز الكهرباء والعجز الهائل في الميزان التجاري”. البنود الثلاثة الاولى تستهلك سنوياً نحو 14 مليار دولار، وتنقسم على النحو التالي: 6 مليارات دولار خدمة دين عام، و6 مليارات دولار رواتب وأجور، ونحو 2.5 مليار عجزاً في الكهرباء. وبالتالي فان تكبُد نحو 35 في المئة من مجمل النفقات على الرواتب والاجور لقطاع عام غير فاعل ومنتج يعتبر مشكلة حقيقية بحاجة إلى معالجة جدية. ومما يزيد من خطورة تضخم هذا البند تحديداً معرفة ان “7 في المئة من موظفي القطاع العام يستحوذون على نحو 50 في المئة من كتلة الاجور”، بحسب عبد الصمد. الامر نفسه ينسحب على الكهرباء، التي لا تنتج أكثر من 40 في المئة من حاجة البلد ويضيع 50 في المئة من الطاقة المنتجة على الشبكة ولا تتعدى نسبة الجباية 50 في المئة. أما التهريب والتهرب الضريبي والجمركي فحدث ولا حرج عن ملايين الدولارات التي تحرم منها الخزينة سنوياً بسبب الهدر والفساد. من هنا فان “كائناً ما كان الحل الذي سيعتمد في حال رفع الدعم، سيؤدي إلى انفجار اجتماعي لا تحمد عقباه في حال لم تتم المباشرة بالورشة الاصلاحية، التي تتطلب قضاء نزيهاً مستقلاً يحترم صلاحيات التفتيشين المركزي والاداري” يقول عبد الصمد. “ولكن للاسف كل ما يجري لغاية اليوم هو الحديث عن الاصلاحات فيما الواقع هو هروب إلى الامام”.

هذه الاصلاحات التي تعتبر بحسب عبد الصمد “مطلباً محلياً موضوعياً، قبل ان تكون شرطاً دولياً لمساعدة لبنان”، تؤمن وفراً مالياً يستخدم في إطلاق العجلة الاقتصادية من جهة، وتشكل من جهة اخرى منطلقاً جدياً لاستكمال المفاوضات مع صندوق النقد، والدخول في برنامج اصلاحي لتأمين القروض المالية المباشرة. فكل ما يهم الدول المانحة وغيرها من الجهات المساعدة، هو خفض النفقات من أجل تأمين استدامة الدين. وهو ما يصب في النهاية في مصلحة لبنان واللبنانيين.

مصدرخالد أبو شقرا - نداء الوطن
المادة السابقة“تيك توك” تمنح أكثر من 60 ألف موظف مكافأة تعادل راتب نصف شهر
المقالة القادمةبوادر انهيار محتمل لـ«إكسون موبيل» وعجز بـ48 مليار دولار في عامين