الحديث عن تغيّرات أو تقلّبات سعر الصرف، مبنّي على عوامل تقنية لم تعد مناسبة، لأنّ الحقيقة المرّة والكلمة المناسبة هي حقيقة التلاعب بسعر الصرف وبحياة اللبنانيين، ونسبة عيشهم.
من الجهة التقنية، ترتبط التغيّرات بسعر الصرف في كل بلدان العالم بالعرض والطلب، والتوازن بين العملة الوطنية والعملات الصعبة، والاستيراد والتصدير، والكتلة النقدية، وبعض الأمور التقنية. لكن ما نشهده اليوم في أرض الواقع، لا يُشبه العوامل التقنية الدولية، إنما هي لعبة بكرة نار يتقاذفونها، ويتلاعبون بها لأسباب غامضة وتخريبية.
لماذا نسمّيها «تلاعب»؟ لأنّ هذه التغيّرات لا تلحق أي منطق تقني أو اقتصادي. والبرهان الأول هو حين أبصرت النور منصة صيرفة منذ سنة تقريباً، وضُخّت بعض السيولة من العملات الصعبة، حيث ارتفع سعر السوق السوداء، عوضاً أن ينخفض بحسب المنطق المالي والتقني، والمفاهيم الاقتصادية والمالية والنقدية. وقد حُفرت فجوة متعمدة بين منصة صيرفة والسوق السوداء.
ومن ثم بعد اتفاق سياسي، وتمهيداً للإنتخابات النيابية في العام الماضي، إنخفض سعر السوق السوداء، بنحو 10 آلاف ليرة، في بضع ساعات.
التفسير المباشر لهذه التقلّبات غير النمطية، أنّ هناك أيادي سوداء وبعض حيتان الصيرفة، يعملون ليلاً نهاراً وراء الستائر لخلق فجوة مستدامة ما بين السوق السوداء ومنصة صيرفة، بهدف أن يكون هؤلاء الموردون والبائعون الأكثر أهمية، يتحكّمون بسعر الصرف بعيداً من أي منصة رسمية.
البرهان الثاني الذي يُضاف إلى هذا التلاعب المتعمّد، هو حين زار لبنان مطلع صيف 2022، أكثر من مليون و800 ألف مغترب، حيث جرى ضخ حوالى 3 إلى 4 مليارات دولار، في السوق المحلية. إذ عوضاً من أن ينخفض سعر سوق الصرف، إرتفعت السوق السوداء بطريقة وهميّة، وغير منطقية. وهناك أمثلة كثيرة تُبرهن أنّ تقلبات سعر الصرف لها أسباب مختبئة وهمية وغير نمطية.
إضافة إلى ذلك، ليس سرّاً، أنّ سعر صرف السوق السوداء، يُلاحق على بعض التطبيقات الإلكترونية (Applications)، ولا نعرف مَن وراءها، أو من يُديرها، وبأي منطق تقني تتفاعل مع الأسواق. لكن المضحك المبكي، أنّ هذه السوق والتطبيقات الوهمية تعمل أكثر من بورصتي نيويورك أو لندن، وتعمل 24/24 ساعة، و7 أيام /7. فمن لم يستيقظ فجراً على رنة هاتفه ليُفاجأ بسعر الإرتفاع المذهل تحت ضوء القمر؟ ومَن لا يُفاجأ بالرنة عينها، يوم الأحد تُعلمه عن ارتفاع أو انخفاض الأسعار من دون سبب أو تفسير؟ فالواضح أنّ هناك مَن يتلاعب بذكاء اللبنانيين، لكن أيضاً بحياتهم ونسبة عيشهم ويشنّ عليهم حرباً نفسية.
أما في الموضوع التقني، فحجم اقتصادنا الذي كان يشكّل نحو 55 مليار دولار، تدهور إلى نحو 25 ملياراً بحسب مرصد البنك الدولي، وهذا يعني أنّ حجم اقتصادنا انخفض بنسبة 50%. فإذا بقيت التحويلات بالعملات الصعبة من الخارج تتمحور ما بين نحو 7-8 مليارات دولار سنوياً، وحتى لو وصلت إلى 10 مليارات دولار، ثمة فجوة كبيرة حيال الطلب والحاجة إلى الورقة الخضراء. فالحل الوحيد لنصل إلى بعض التوازن هو من جهة، إستقطاب عملات صعبة إضافية، ومن جهة أخرى إرتفاع سرعة التبادل بالعملات الصعبة في السوق المحلية.
كذلك هناك عامل واضح، أنّ جزءاً من العملات الصعبة التي تدخل البلاد، تُسحب إلى سوريا، جرّاء العقوبات وخصوصاً «قانون قيصر». فالسيولة الآتية إلى لبنان لن تكفي اقتصادنا المهترئ، فكيف يمكن أن تكفي إقتصادين وشعبين تحت الضغط الاقتصادي والاجتماعي؟
في الخلاصة، لا شك في أنّ هناك أسباباً تقنية ومالية ونقدية، وخسارة تامة في التوازن بين العرض والطلب. لذا فإنّ الفجوة كبيرة بينهما في السوق المحلية، لكن في الوقت عينه، شئنا أم أبينا، تُنتج هذه الفجوة تغيّرات وتقلّبات في أسعار الصرف، لكن الأسباب الأكثر أهمية هي من جهة، تهريب العملات من بلدنا، ومن جهة أخرى، التلاعب بأسعار الصرف بمنصّات وهميّة وبأهداف تخريبية ومدمّرة، وأرباح فادحة تتحقق في كل ساعة وفي كل يوم، من خلال هذه الأيادي السود والسوق السوداء، وجرّ اللبنانيين إلى المجهول.