من حيث المبدأ، لم يتضمّن تقرير صندوق النقد الدولي حول لبنان مفاجآت غير متوقعة، بل كان بمثابة توصيف وتوثيق لأرقام وحقائق معروفة، يتابعها اللبنانيون منذ اكثر من ثلاث سنوات ونصف. ومع ذلك، هناك ملاحظات في التقرير، لا بد من تسليط الضوء عليها، بالنظر الى حساسيتها وأهميتها.
تكمن أهمية التقرير الذي أصدره صندوق النقد الدولي حول لبنان، بناء على مناقشات المادة الرابعة، والذي يقع في 61 صفحة، تتضمّن رسومات بيانية وجداول، في انه التقرير الدولي الرسمي الاول الذي يصدر بعد أزمة الانهيار في نهاية العام 2019. ومن البديهي انّ مضمونه سوف يُعتمد كمُستند موثوق تبني عليه الدول، لاتخاذ القرارات حيال الوضع اللبناني، وكذلك يفعل المستثمرون والدائنون…
الى ذلك، تَرِد في التقرير الموسّع، مواقف وحقائق ملفتة، من أهمها:
أولاً – يعترف التقرير بتوقّف الانكماش في الاقتصاد في العام 2022، لكنه لا يوافق مصرف لبنان على تقديراته بوجود نمو قدره 2 %.
ثانياً – يشير التقرير الى الخسائر التي تكبدها لبنان بعد الأزمة، بسبب سوء الادارة، والتي أدّت الى فقدان مصرف لبنان حوالى ثلثي احتياطه من العملات، التي تراجعت من 31 مليار دولار في العام 2019، الى 9.5 مليارات دولار حالياً.
ثالثاً – في معرض توصيفه للاسباب التي أوصلت الاقتصاد الى ما هو عليه اليوم، يذكر التقرير قرار الحكومة اللبنانية التوقّف عن دفع سندات اليوروبوندز في آذار 2020، بما يؤكد مسؤولية الحكومة آنذاك في دفع الأزمة الى تعقيدات كان يمكن التخفيف منها، فيما لو لم يتخذ قرار «الافلاس».
رابعاً – يشير التقرير الى ان الاموال التي كانت متوفرة في العام 2017 في القطاع المالي (مصرف لبنان والمصارف) كانت تكفي لضمان الودائع، بما يعني انّ الفجوة المالية التي وصلت الى 73 مليار دولار، حصلت في قسمٍ كبير منها بعد الانهيار، وبسبب سوء ادارة الأزمة.
خامساً – يتضمّن التقرير اشارة الى الخسائر التي تكبدها القطاع المالي جرّاء اعادة القروض الدولارية بالعملة اللبنانية او بسعر صرفٍ غير واقعي. ويورِد انّ حجم الودائع تراجع حوالى 30 مليار دولار منذ بداية الأزمة، بينها حوالى 27 مليار دولار، عبارة عن قروض جرى تسديدها بالليرة او باللولار. وهذا يؤكد ان ما حصل لم يكن بمثابة تذويب للودائع، بقدر ما كان عملية تكبيد القطاع المالي خسائر كبيرة، وكشفه أكثر على مصرف لبنان، اذ زادت مطلوبات المصارف على المركزي بسبب عمليات تسديد القروض بهذه الطريقة. ويصف التقرير ما جرى بأنه عملية دعم للمقترضين، ويقدّر حجم هذا «الدعم» بحوالى 15 مليار دولار، وهذا الرقم يعكس حجم خسائر المصارف نتيجة هذا الاجراء.
سادساً – يتحدث التقرير عن سياسة الدعم، والتي أدّت الى خسارة مصرف لبنان حوالى ثلثي احتياطه من العملات.
سابعاً – لا ينتقد التقرير عمل منصة صيرفة، ولو انه لا يوافق على استمرار سياسة دعم الليرة، ويدعو الى تطوير هذه المنصة لاستخدامها في عملية توحيد سعر الصرف، وتحويلها الى أداة مالية للتداول.
في المقابل، يبدو واضحاً انّ سياسة صندوق النقد لم تتغير بعد حيال النظرة الى اعادة الودائع، ولا يزال هناك إصرار على عدم المس بإيرادات القطاع العام للمساهمة في عملية التعافي. ويظهر بوضوح هذا النهج من خلال اختيار العبارات في توصيف هذا الامر. وعلى سبيل المثال، يَرِد في المقطع المخصّص لسيناريو التعافي، والذي يرسم خارطة طريق للوصول الى استدامة الدين العام، وانخفاضه الى ما نسبته 80 % من حجم الاقتصاد (GDP) في العام 2027، ان هذا الامر ممكن شرط ألا يُستَخدَم جزء من ايرادات الدولة في اعادة هيكلة المصارف. وهكذا، يتم توصيف ديون الدولة على غير حقيقتها. اذ ان المطروح ليس مساهمة الدولة في اعادة هيكلة المصارف، بل ان تعمُد الدولة الى تسديد ديونها، او جزء من هذه الديون، كما سيجري في ملف اليوروبوندز.
اما الحديث عن ان القطاع العام منهار، وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليه لتأمين ايرادات تكفي للتعافي ولدفع الديون، فهذا الامر منطقي وفقاً للدراسات التي تجري على القطاع العام في حالته الراهنة. لكن ارقام الايرادات وقيمة مؤسسات وأصول هذا القطاع قد تتغير وتتضاعف في حال الموافقة على إشراك القطاع الخاص في ادارة هذا القطاع، وهذا هو الامر المطلوب، لكي تصبح الدولة قادرة على التعافي، من دون ان تضطر الى التنكّر لديونها، بحيث تضيع حقوق المودعين.
يبقى تساؤل أخير، كيف تم احتساب خسائر المودعين منذ 2020 وتقديرها بـ10 مليارات دولار، اذا كان التقرير نفسه يشير الى فقدان حوالى 22 مليار دولار من احتياطي مصرف لبنان، وحوالى 15 مليار دولار خسائر تسديد الديون الدولارية بالليرة او باللولار؟