سارَعَ النواب الأربعة لحاكم مصرف لبنان لإعلان رفضهم قيادة المركب المتّجه للغرق، وتفادي تخليد أسمائهم في سجل الانهيار، وإن كانوا غير مسؤولين مباشرين عنه. فدعوا في بيان إلى تعيين حاكم جديد للمصرف المركزي خلفاً لرياض سلامة، الذي تنتهي ولايته في نهاية شهر تموز الجاري. واستباقاً لأي مماطلة سياسية في التعيين، هدَّدَ النواب باتخاذ “الإجراء الذي نراه مناسباً للمصلحة العامة”. (راجع المدن).
خيار الاستقالة مطروح
لا خيارات سريعة تُنقِذ نواب الحاكم سوى الاستقالة. فبهذه الطريقة لا يضطرّون لاتخاذ قرارات مصيرية تتعامل مع “واقع محكوم بسياسات نقدية ومالية ليسوا هم مَن وضعها ولا يوافقون عليها. وبالتالي، لا يريدون المغامرة بانفجار الأزمة في وجوههم”، وفق ما تقوله لـ”المدن” مصادر على صلة بحاكمية مصرف لبنان.
وتضيف المصادر، أن “نواب الحاكم تداولوا بخيار الاستقالة، سيما وأن الإجراءات التي سيتّخذونها في حال تسلّمهم إدارة المركزي بعد سلامة، ستحمل آثاراً قد ترتدّ عليهم، وفي مقدّمها على سبيل المثال، ارتفاع سعر صرف الدولار في حال التخلّي عن منصة صيرفة”. والتخلّي عن المنصة أمر مرحَّب به بشهادة البنك الدولي، الذي يعتبر أن المنصة “تمثل أداة نقدية غير مؤاتية أدت إلى ارتفاعات قصيرة الأجل في سعر صرف الليرة على حساب الاحتياطي والوضع المالي لمصرف لبنان”.
وليس الخوف من تداعيات ارتفاع سعر صرف الدولار وحده ما يقلق النواب، بل التعامل مع الطبقة السياسية والدين العام والقطاع المصرفي وميزانية مصرف لبنان ونتائج التدقيق الجنائي وموقف المصرف المركزي من إعادة أموال المودعين.. وما إلى ذلك من مواقف ساخنة، تستوجب اتخاذ قرارات غير شعبوية ومؤلمة على المستوى الاقتصادي والنقدي.
ويستسيغ النواب فكرة الاستقالة لإدراكهم أن الإصلاح بعيد المنال، ما يعرقل محاولة المصرف المركزي استعادة زمام الأمور وإعادة الثقة. بل إن “غياب خطة شاملة وواضحة لإعادة التوازن المالي والمصرفي، وتحقيق توازن في موازنة الدولة، مما يسمح للمصرف المركزي بوضع الأسس النقدية والمالية لإعادة الثقة”، يدفع باتجاه تحويل نواب الحاكم إلى سلطة “تصريف الأعمال”، وهو أمر “لا يجوز أن ينسحب إلى السلطة النقدية الأعلى في الدولة” (حسب بيان نواب الحاكم).
تسريع التمديد
التلويح بالاستقالة يبقى راهناً في سياق التهديد، لتسريع تعيين خلف لسلامة أو إيجاد حل آخر يعفي النواب من مسؤولية لا يريدونها في هذه الظروف. “الحل الآخر الأكثر ترجيحاً هو التمديد لسلامة مدّة سنة على الأقل”. ولا ضير في ذلك بالنسبة للسلطة السياسية، التي جدّدت للحاكم 4 مرات بعد تعيينه في العام 1993. “ومَن قَبِلَ به حاكماً لـ30 عاماً، سيقبله لعام إضافي. ثم أن لا متغيّرات جوهرية ستحصل خلال عام”، لكنها مهلة كافية لتمرير الوقت بانتظار الحلول السياسية الخارجية والقرارات القضائية المتعلّقة بالتهم الموجَّهة لسلامة.
أرضية حفاظ سلامة على كرسيه، موجودة ومكفولة بالمادة 18 من قانون النقد والتسليف، التي تنص على أن الحاكم يُعيَّن “بمرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المالية. ويمكن تجديد ولاية الحاكم ونائبيّ الحاكم مرة أو مرات عدة”. وأشار وزير المالية يوسف الخليل في شباط الماضي إلى احتمال التمديد للحاكم، معتبراً أن “استبدال حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي يشغل المنصب منذ ثلاثة عقود، سيكون صعباً، وقد تُمدَّد ولايته رغم عدم التوصل إلى توافق بشأن ذلك حتى الآن”.
الغطاء السياسي والطائفي
كما أن الغطاء السياسي الأبرز، موجود، وهو رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ورئيس مجلس النواب نبيه برّي. فالأوّل أكَّد في نهاية العام 2021 أنه “خلال الحرب لا يُمكن تغيير الضبّاط”، مصوِّراً الأزمة التي يمرّ بها لبنان بالحرب التي لا تحتمل تغيير الضبّاط في خضمِّها. أماً الثاني، فحذّرَ في نيسان 2020 من أن “اللبنانيين سيستيقظون على سعر الدولار بـ15 ألف ليرة”، إذا أقيل سلامة. وكان الدولار حينها بين 4 و5 آلاف ليرة.
ويحظى سلامة بغطاء ديني يؤمّنه البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، الذي رأى أن الحديث عن إقالة سلامة هو زعزعة لحاكمية مصرف لبنان، ونتيجة ذلك “وخيمة، وتقضي على ثقة اللبنانيين والدول بمقوّمات دولتنا الدستورية”.
العقبة التي قد تواجه التمديد هي ضرورة قَسَم الحاكم ونوابه أمام رئيس الجمهورية “على أن يقوموا بوظائفهم بإخلاص ودقّة محترمين القانون والشرف”. لكن يمكن التحايل على هذا البند القانوني، بأن ما سيحصل هو تمديد جزئي تحقيقاً للمصلحة العامة، كما أن وجود رئيس للجمهورية قبل نهاية تموز، أمر مستحيل، ولا يمكن تعريض البلاد إلى خضّات غير محسوبة النتائج في حال شغور موقع الحاكمية.
التمديد يُرضي الجميع. فسلامة يحتاجه ليؤكِّد أهمية دوره في هذا النظام. ونوابه يريدونه ليتملّصوا من قيادة مرحلة سوداوية في تاريخ البلاد والمصرف المركزي. والسلطة السياسية تتوق إليه لأن سلامة مستودع أسرارها. والمصارف هي الشريك الوفي لسلامة، وإن شهدت العلاقة بينهما بعض الخلافات، لكنها لا تفسد ودّهم.