رأى الأمين العام لجمعية المصارف فادي خلف أنّ “للمودعين حقوقاً وللمصارف حقوقاً أيضاً وكلاهما يُطالبان بها”، وقال إن “على الدولة أن تحزم أمرها وتتحمل مسؤولياتها، لأنّ رمي الدولة ومصرف لبنان مسؤوليتهما المشتركة في ضياع أموال الناس على المصارف لن يُؤدّي إلّا إلى مزيد من الخراب وضياع الأمل”.
كلام خلف جاء في افتتاحية التقرير الشهري لجمعية مصارف لبنان بعنوان “المصارف في فترة الانتظار”، وهنا نصّها: “في ظروفٍ تتزايدُ تعقيداً، وفيما كانت المصارف تأملُ من الدولة أن تتوصّل إلى حلول يُبنى عليها لإعادة إطلاق العمل المصرفي على أسس سليمة، يبدو واضحاً أنّه عوض إحراز التقدم الموعود تقع الدولة في فراغٍ تلو الفراغ.
يعتقد البعض أنّ على المصارف انتظار الحلول السياسيّة علّها تأتيها بجديد. لكن الواقع أنّ الأزمة لا تمنحها ترف الوقت، فهي تتفاقمُ والمصارف تحاولُ جاهدةً التأقلم معها لمواجهة المخاطر، وهي تسأل إلى متى؟ لقد طالبت المصارف وبإلحاحٍ الدّولة، بتحمّل مسؤولياتها تجاه أموال المصارف والمودعين، لكن الدولة ما زالت حتى اليوم تتهرّب من هذه المسؤولية، محاولة تحميلها للمصارف بإلقاء اللوم عليها في لعبة تقاذف المسؤوليات بين السياسيين، فأضحى التهجّم على المصارف أداة للشعبويّة أكثر من أي شيء آخر.
بالنسبة لمشاريع القوانين، أكان مشروع إعادة الانتظام المالي أو إعادة هيكلة المصارف، أصبحت لدى المصارف قناعة واضحة بأنّ التركيز يتجّه نحو شطب ودائع المصارف لدى مصرف لبنان، وبالتالي تحميل المصارف والمودعين مسؤوليّة الفجوة الماليّة التي تُواجهها البلاد اليوم. إن الفجوة المالية أتت نتيجة “أزمة نظاميّة” تسبّب بها الفساد المستشري وسوء الإدارة في القطاع العام.
أزمة نظاميّة أرخت بظلالها بشكلٍ كبير على القطاع الخاص وتحديداً على القطاع المصرفي وعلى المودعين.
على هذا الأساس وحده، يجب أن تُبنى الحلول وليس على أي أسسٍ أخرى.
من الناحية القضائيّة تعرّض القطاع المصرفيّ لقراراتٍ تعسفيّة، عبر الادعاء جزافاً بتهمة تبييض الأموال على عدد من المصارف بسبب عدم منحها معلومات مصرفية بمفعول رجعي خلافاً للقانون. ومن المؤسف أنّه بالإضافة إلى الناحية التعسفية لهذا الادعاء، يُكمن الأذى البالغ الّذي يلحقه هكذا ادعاء بعلاقة المصارف اللبنانيّة بالمصارف المراسلة، ما يُهدّد مصالح المودعين والاقتصاد الوطني بشكلٍ عام.
وحده مجلس شورى الدولة نطقَ بالحقّ، إذ قبل “بالشّكل” الدعوى المقدمة من جمعية المصارف ضدّ الدولة لمنعها من استملاك أموال المودعين مع مفعول رجعي. وقد ورد في متن قرار الشورى توصيف دقيق للواقع، عندما تحدث بوضوح لا لبس فيه، عن “قيام الدولة اللبنانية بمصادرة ودائع المصارف لدى مصرف لبنان والتصرف بها وتملّكها”. إن هذا القرار يُعتَبر انتصاراً للمودعين وللمصارف على حد سواء. على أمل أن يستكمل مجلس الشورى قراره بقبول “أساس الدعوى” لتعود للمودعين وللمصارف حقوقهم.
من الناحية الأمنية، تعرّضت وما زالت المصارف لهجمات شرسة. فتمّ إحراق العديد من الفروع وتدمير صرَّافاتها الآلية.
تعرّض موظفو المصارف للتهديد والاعتداء الجسديّ. في ظلّ هذه الظروف الصعبة، نسمع بشكلٍ متكرّر عن محاولات لإصدارِ تراخيصَ لمصارف جديدة في لبنان. لقد قام حاكم مصرف لبنان بنفي هذه الأخبار، لكنَّ المصارف رغم ذلك تشعر بالقلق الشديد من أن تتفاقم الضغوط المُقبلة في هذا الاتجاه، فتقضي على أي إمكانيّة لاستمرارية المصارف الحالية وعلى أي أمل باستعادة الودائع.
وفي ما يتعلق بالدعاوى الحالية التي تقام ضد المصارف في الخارج، من الواضح أن قلة من كبار المودعين المقيمين في الخارج هم من يقدمون هذه الدعاوى ضد المصارف، بما يؤدّي إلى جفاف سيولتها التي يفترض أن توزع على جميع المودعين بالتساوي وفقاً للتعميم رقم 158. إنّ ما يحدث يُمكن تصنيفه على أنه قمة الاستنسابية وضرب للمساواة بين المودعين.
وفي ما يتعلق بطريقة تبديد 51 مليار دولار من أموال المودعين بعد 17 تشرين الأول 2019، فقد انخفضت التسليفات للقطاع الخاص من 38 مليار دولار إلى نحو 9 مليارات دولار. وهذا يعني أنه تم تسديد 29 مليار دولار من أموال المودعين إما بالليرة أو بالدولار المحلي. لقد تم ذلك بسبب عدم اتخاذ الدولة الخطوات اللازمة لحماية أموال المودعين. هذا التأخير أدّى إلى تغييرٍ جذريّ في النظام الاقتصادي اللبناني وحوَّلَه إلى نظام أشبه بالأنظمة التي تنادي بإعادة توزيع الثروات، حيث أصبح مقترضو الأمس، أثرياء اليوم، وذلك على حساب المودعين.
بالإضافة إلى ذلك، تم استخدام نحو 22 مليار دولار منذ بدء الأزمة من الاحتياطي الإلزامي لتمويل المحروقات والأدوية والطحين، ولتلبية احتياجات الدولة من العملات الأجنبية، ولدفع رواتب القطاع العام، وللتدخل لدعم الليرة اللبنانية من خلال منصّة صيرفة، وغيرها من الأغراض غير المعتادة.
وهنا يجب التذكير وبشدّة، أن هذا الاحتياطيّ مخصّصٌ حصرياً لحماية الودائع وحق للمودعين، لا يشاركهم فيه أحد. ولكن، ورغم الاعتراضات المتكررة للمصارف، تمّ تحويل جزءٍ كبير من هذا الاحتياطي إلى أغراض غير تلك المخصّصة له، بدلاً من إعادته إلى المودعين، وهم وحدهم أصحاب الحق.
وفي ما يخصّ ودائع المصارف لدى مصرف لبنان، صرّح حاكم مصرف لبنان، وخلال لقاءات تلفزيونيّة عدة، بأنّ مصرف لبنان أعاد للمصارف كامل إيداعاتها لديه، لا بل أنه حول لها مليارات من الدولارات زيادة على ما أودعته في المركزي.
ومن الطبيعي أن تفضي هذه التصاريح إلى بلبلة في أوساط عدّة معنية مباشرة بهذا الموضوع، أولها المصارف والمودعين، وقد أدّى ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلى ذيول تواجهها المصارف منذ فترة ومنها:
أ- توجُّه المودعين إلى فروع المصارف معتقدين بأن خزناتها الحديدية تحتوي على 85 مليار دولار وهي تمتنع عن تسليمهم إياها.
ب- الجهات الدولية تسأل عن الضبابية في هذا المجال، فميزانية مصرف لبنان تُبَيِّن أن ودائع المصارف ما زالت موجودة في حسابات مصرف لبنان، ومن جهة أخرى يُفهم من تصريحات الحاكم عكس ذلك.
ج- الإعلام لا ينفك يتواصل مع المصارف مطالباً بتوضيح موقفها من هذه النقطة بالتحديد ومتهماً إياها بأن سكوتها هو علامة الرضى.
المصارف من ناحيتها حاولت الاستفسار عن هذه التصريحات، لكنها لم تحصل بعد على الجواب الشافي، وبالتالي بقيت لديها تساؤلات مشروعة ومنها:
– لماذا تظهر ميزانية مصرف لبنان إيداعات للمصارف تفوق 85 مليار دولار، لو صحَّ أن هذه الودائع قد أعيدت للمصارف؟
– لماذا تضمّن كتاب حاكم مصرف لبنان لجمعية المصارف بتاريخ 11 أيار 2022 فقرة عن توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان تفيد بأن مصرف لبنان “سيتولى إعادتها للمصارف” (بصيغة المستقبل)؟ وقد نصّ الكتاب على أن “الأموال التي يتم توظيفها لدى مصرف لبنان… تبقى ديناً لصالح هذه المصارف بذمة مصرف لبنان الذي سيتولى إعادتها للمصارف… إمّا بالشكل والخصائص ذاتها التي قامت المصارف بتوظيفها لديه … إما بالليرة اللبنانية…”.
– هل إن مصرف لبنان من خلال كتاب حاكم المركزي يُجيز للمصارف إعادة الودائع للمودعين بالطريقة التي تتسلمها منه؟
– كيف تُقرّ الحكومة عبر الورقة التي قدمها مستشار رئيس الحكومة سمير الضاهر بأن المصارف اللبنانية لديها ودائع في المصرف المركزي بقيمة 85.2 مليار دولار، ويورد حاكم مصرف لبنان في تصريحاته عكس ذلك؟
– كيف تقر الحكومة وترسل إلى مجلس النواب مشروع قانون لإعادة التوازن للانتظام المالي ينص حرفياً على “مُعالجة الفجوة المالية من خلال تخفيض قيمة توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان بالعُملات الأجنبية”، إذا كانت هذه التوظيفات قد تم سدادها؟
في الخلاصة،
يواجه القطاع المصرفي فترة انتقالية حرجة وسط فراغات في المراكز الدستورية والإدارية وتأجيل الحلول. لقد حان الوقت للتعامل مع الأسباب بالتزامن مع معالجة النتائج. يجب أن تترافق إعادة هيكلة المصارف مع القضاء على الفساد والمحسوبيات في القطاع العام على مُختلفِ المستويات ومن دون استثناء، بحيث لا يتمّ تبديد ما تبقى من أموال المودعين، ولا تُبنى الخطط على باطلٍ فتعود وتسقط من جديد.
وكما يُقال: “لا يموت حقّ وراءه مُطالب”.
فللمودعين حقوق وللمصارف حقوق وكلاهما يطالبان بها. على الدولة أن تحزم أمرها وتتحمل مسؤولياتها، لأن رمي الدولة ومصرف لبنان مسؤوليتهما المشتركة في ضياع أموال الناس على المصارف لن يؤدّي إلا إلى مزيد من الخراب وضياع الأمل”.