مع ارتفاع نسب التضخم والأسعار زادت معاناة السكان المحليين الذين يعتبرون أن السياحة هي سبب ارتفاع التكاليف، وهو ما دفع الحكومات الأوروبية، وفق تقرير للباحثة رحمة حسن، إلى التحرك ووضع سياسات مستدامة لمواجهة التبعات البيئية والاجتماعية لتدفق السياح.
السياحة تعزز عملية النمو الاقتصادي وفرص العمل في جميع أنحاء العالم نتيجة زيادة مساهمتها في الناتج القومي الإجمالي. ولكن، كما تقول الباحثة رحمة حسن في هذا التقرير، مع ارتفاع نسبة التضخم العالمي وارتفاع الأسعار والتكاليف زادت معاناة السكان المحليين الذين بدأوا في رؤية السياحة سبباً في ارتفاع تكاليف الإقامة نتيجة زيادة الطلب.
واتجه العالم إلى وضع سياسات أكثر استدامة، في ظل عودة الحركة السياحية العالمية بنسبة 97 في المئة إلى مستويات ما قبل جائحة كورونا، مقارنةً بالفترة نفسها من عام 2019؛ إذ سافر أكثر من 285 مليون سائح دولياً في الفترة الممتدة من يناير إلى مارس 2024.
واستطاعت الوجهات الأوروبية تخطي حاجز عام 2019 باعتبار أن القارة العجوز هي الوجهة الأولى عالمياً، مسجلة نحو 120 مليون سائح خلال الربع الأول من العام الحالي؛ أي 42 في المئة من إجمالي السياحة الوافدة عالمياً، ولكن الأعداد السياحية المتزايدة أثارت سلوكاً معادياً ضد السياحة المفرطة في الفترة الأخيرة نظراً إلى تأثيرها في الخدمات المقدمة للمجتمع المحلي، بجانب آثارها البيئية. ووفقاً لمنظمة السياحة العالمية، تُعَرَّف السياحة المفرطة (Overtourism) بأنها تأثير السياحة على وجهة ما أو أجزاء منها بشكل مفرط، وبما يؤثر بشكل سلبي في جودة حياة المواطنين.
واستطاعت الدول الأوروبية تحقيق أعلى معدل استقبال للسياح بنسبة 54 في المئة من قيمة السياحة العالمية عام 2023، وبلغت إيراداتها من السياحة نحو 660 مليار دولار من إجمالي إيرادات السياحة الدولية التي وصلت إلى 1.5 تريليون دولار في العام نفسه.
وثمة توقع باستعادة الحركة السياحية بشكل كامل في عام 2024 نتيجة الطلب القوي واستمرار انتعاش الأسواق السياحية الأكثر نمواً، وتوقع تحقيق انتعاش اقتصادي بالرغم من البطء المرتبط بمناطق عدة في ظل استمرار التضخم وارتفاع أسعار الفائدة وعدم استقرار أسعار النفط واضطراب حجم التجارة، وفقاً لتقرير صادر عن صندوق النقد الدولي.
ومن هذا المنطلق، فإن السياحة تعزز عملية النمو الاقتصادي وفرص العمل في جميع أنحاء العالم؛ نتيجة زيادة مساهمتها في الناتج القومي الإجمالي، إلا أنه مع ارتفاع نسبة التضخم العالمي وارتفاع الأسعار والتكاليف زادت معاناة السكان المحليين الذين يعزون ارتفاع تكاليف الإقامة إلى السياحة التي أسهمت في زيادة الطلب. وهو ما ترتب عليه اندلاع احتجاجات ضد السياح على مدار الأسابيع الماضية في عدة مدن إسبانية، مع تخوف أن تنتقل هذه العدوى إلى مدن أوروبية أخرى في ظل استمرار الاعتماد على الأعداد السياحية وليس معدلات الإنفاق.
ولم تكن الاضطرابات الأخيرة الأولى من نوعها ضد السياحة في الدول الأوروبية، بل سبق أن شهدت مدينة البندقية الإيطالية عام 2021 احتجاجات ضد رسو السفن السياحية الكبيرة في المدينة؛ وهو ما اضطر السلطات الإيطالية آنذاك إلى إصدار قرار يقضي بحظر مرور السفن السياحية الكبيرة عبر القناة الكبرى وأصبحت ترسو بعيداً عن المدينة. وعلى الرغم من أن الاحتجاجات الإيطالية جاءت نتيجة المخاوف البيئية والهيكلية للبندقية، فإن اعتراضات سكان برشلونة في إسبانيا جاءت نتيجة تزايد أعداد السياح، والاعتماد على ما يُسمى السياحة الجماعية؛ ما أسهم في ارتفاع أسعار الإيجارات بالنسبة إلى سكان المدينة.
وتجدر الإشارة إلى أن السياحة الجماعية تُعرف بأنها حركة عدد كبير من السياح المُنظمين إلى المقاصد المختلفة لأغراض ترفيهية؛ إذ يستهلكون المنتجات السياحية بشكل جماعي ومماثل، وغالباً ما تكون أرخص طريقة لقضاء العطلات. ويؤدي الاعتماد الكمي للدول على الأعداد السياحية إلى زيادة الأعداد عن حجم استيعاب المدن في مواسم بعينها؛ ومن ثم الضغط على بنيتها التحتية.
والجدير بالذكر أن الأدبيات الاقتصادية دأبت على النظر إلى السياحة المفرطة باعتبارها إحدى نتائج السياحة الجماعية؛ إذ تنشأ الأولى جراء الطلب السياحي الذي يتجاوز القدرة الاستيعابية للمجتمعات المضيفة.
ويمكن القول إن ثمة سببين رئيسيين للشكوى من السياحة الجماعية، والتي قد تؤدي بدورها إلى إفراط في الحركة السياحية في مواسم بعينها:
1- التأثيرات البيئية: أشارت دراسة منشورة أُجريت عام 2020 إلى أن الأنشطة السياحية تسببت عام 2005 في نحو 1305 ملايين طن من غاز ثاني أكسيد الكربون، بجانب الضغط على الموارد المائية، فضلاً عن تأثير المراكب السياحية والسفن والفنادق العائمة على التنوع البيولوجي.
وتؤكد تقديرات “الوكالة الأوروبية للبيئة”، المنشورة في يناير 2023، معاناة دول جنوب أوروبا من أزمة ندرة المياه؛ إذ يعيش حوالي 30 في المئة من سكانها في مناطق تعاني من إجهاد مائي دائم.
وهذا ما دفع العديد من الفنادق إلى إعادة تدوير مياه الصرف لأغراض التنظيف وفرض رسوم بقيمة 1 يورو على خدمات المياه.
2 – التأثيرات الاجتماعية: تسهم السياحة بشكل إيجابي في تحسين جودة حياة المجتمع المحلي، واستفادته من عمليات التنمية والتطوير. وتُعد السياحة نشاطاً اقتصادياً رئيسياً في دول الاتحاد الأوروبي. ويجذب القطاع بشكل مباشر وغير مباشر حوالي 36.7 مليون وظيفة في أوروبا وفقاً لتقديرات عام 2023. ومن المتوقع أن يتجاوز عدد الوظائف في 2024 مستويات ما قبل الجائحة، ليصل إلى نحو 39.1 مليون وظيفة.
وفي المقابل تكمن الآثار السلبية في موسمية بعض الأعمال في القطاع السياحي، كما أن زيادة الطلب السياحي على العديد من العقارات والخدمات الأساسية أدت إلى عدم توافرها أو ارتفاع أسعارها.
وهناك شعور متزايد لدى المجتمع المحلي بعدم المساواة نتيجة تركيز معظم مصادر إنفاق الدخل السياحي على سلاسل القيمة المقدمة للسائح من وسائل نقل أو إقامة أو شركات حجز ومنظمي رحلات؛ وهو ما يحد من التدفقات النقدية المباشرة للسياحة على المجتمع المحلي.
وهذا ما دفع العديد من الدول إلى اتخاذ إجراءات لتقليل الأزمة، مثل وقف التراخيص الجديدة لتأجير العقارات عبر منصات الإنترنت مثل “Airbnb”.
وقد تساعد السياسات الوطنية لبعض الدول على إنهاء المشكلات المرتبطة بتحول السياحة الجماعية إلى سياحة مفرطة. بيد أن هناك حاجة إلى سياسات سياحية مستدامة لإدارة الوجهات؛ بهدف تعزيز الاستدامة والشمول، مع معالجة العوامل الخارجية وتأثير القطاع على الموارد والمجتمعات، وهو ما تم وضعه من قِبل منظمة السياحة العالمية في فبراير 2024 كإطار لقياس الاستدامة الاجتماعية والبيئية، وسيجري التصويت عليه من قِبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل. ويمكن تحديد تلك السياسات في التالي:
1 – سياحة الجودة بدلاً من الكمية: وذلك من خلال الاعتماد على السائح الأعلى إنفاقاً؛ فالدول الأكثر جذباً للسياحة ليست بالضرورة الأكثر دخلاً من نظيراتها، فالولايات المتحدة حققت المركز الأول من حيث الإيرادات السياحية والثالثة من حيث عدد السياح، مقابل فرنسا الأولى من حيث عدد السياح والرابعة من حيث الإيرادات؛ ومن ثم فإن الاعتماد على جذب السائح الأكثر إنفاقاً سيسهم في تخفيف حدة الأزمة الناجمة عن السياحة المفرطة.
2 – تطبيق الحصص السياحية وتطوير وجهات جديدة: من خلال العمل على إعادة توزيع السياح على المناطق الأقل جذباً، وتنظيم دخول الأفراد إلى المناطق الأثرية والسياحية، وفرض حد أقصى لعدد الزوار.
3 – تغيير مؤشرات الأداء: وذلك عبر الاعتماد على معدلات الإيرادات، بجانب كيفية مساهمة السياحة في التقليل من البطالة، والالتزام بجعل السفر الجوي خاليا من الكربون بحلول عام 2050.