ليس مفاجئاً أن تعيد قوى السلطة إطلاق معركة توزيع الخسائر بمعزل عن كل ما ورد من نقاشات حول المسؤوليات، وحول مفهوم تراتبية التوزيع والأولويات التي فرضها صندوق النقد الدولي على الخطة اللبنانية لتوزيع الخسائر وإعادة هيكلة القطاع المصرفي. فقد بات لهذه القوى شرعية تمثيلية يمكن ترجمتها في الداخل من خلال رصّ الصفوف وتعبئة النفوذ في خدمة مصالح فئات على حساب أخرى، ويمكن تظهيرها تجاه الخارج أيضاً. وهذا بالفعل، ما بدأ يحصل بعد الانتخابات النيابية مباشرة. فرغم أن النقاش يدور اليوم حول أحجام كل طرف في السلطة، وطبيعة التحالفات بين أطرافها، إلا أن هذه القوى بمجملها ألغت من ذاكرتها، ومن ذاكرة اللبنانيين أيضاً، كل ما حصل منذ 17 تشرين الأول 2019، وصار النقاش يتمحور حول التعويض على الكبار من أصحاب الودائع من خلال التفريط بأملاك الدولة. هذه هي المهمّة التي يتولى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة القيام بها نيابة عن قوى السلطة وبغطاء منها، إذ سيقوم بصياغة قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي الذي سيتضمن كيفية التعويض على هؤلاء، بحجّة أن خطّة التعافي التي أعدّها نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي ضمنت الودائع التي تقلّ عن 100 ألف دولار بكلفة 34 مليار دولار.
صحيح أن قوى السلطة خضعت لأصوات بعض «النخب المالية» المطالبين بالخضوع لصندوق النقد الدولي، لكن ذلك حصل في فترة التحضير للانتخابات. وقوى السلطة لم تعد ترى في هذا الاتفاق، بصيغته الحالية، ضرورة لحماية وجودها واستمراريتها، بل تعتقد أنه يمكن تحسين شروطها بعدما استعادت نفوذها في الداخل والخارج. وهو ما مكّنها من تشكيل اللجان النيابية بالطريقة السابقة. وهو ما جعلها تقدر على منع أي قاض من الادعاء على حاكم مصرف لبنان المشتبه فيه بتبييض الأموال واختلاس الأموال في الخارج.
وفي سياق استعادة السيطرة، قرّرت السلطة أن تكلّف رياض سلامة، المسؤول الأول والمباشر عن كل ما حصل ويحصل في القطاع المالي في لبنان، بصياغة قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي الذي يوزّع الخسائر، ويعيد ترتيب القطاع بحجمه ورساميله وملكيته ووظيفته. بهذه الخلفية، كان سلامة حاسماً في مقابلته الأخيرة حين قال إنه يجب إبقاء السرية المصرفية. فبهذا المعنى، إن التعديلات التي طلبها صندوق النقد على هذا القانون ستكون شكلية وغير مجدية. وهي تعديلات مماثلة لتلك التي أجراها على صعيد توحيد سعر الصرف. فقد بات بإمكانه القول إن لديه منصّة توحّد سعر الصرف، إنما التوحيد النهائي يتطلّب احتساب الضرائب والرسوم وفق هذا السعر، أي مضاعفة الضرائب على المكلّفين. بالنسبة إليه، إن باقي أسعار الصرف الموجودة هي من سمات الاقتصاد الحرّ. ورغم هذا الادعاء، إلا أنه في ظل الاقتصاد الحرّ، يحدّد مصرف لبنان أسعار الفائدة ويمدّد تعميماً يمنح المصارف مليارات مجانية من الفوائد المرتفعة المموّلة من ميزانيته.
ما أراد سلامة قوله أخيراً، يمكن صياغته على النحو الآتي: أنا أقرّر من يربح ومن يخسر في هذا المجتمع. لطالما كانت هذه وظيفتي في العقود الماضيةـ وسأبقى أمارسها في خدمة طبقة الـ 1% الأكثر ثراءً ونفوذاً، وهذه الشريحة توفّر لي الحماية والغطاء!
بهذا المعنى، فإن الخاسرين من التضخّم هم غالبية المجتمع، وهم أيضاً الذين خسروا مدخراتهم ومداخيلهم وما لديهم من أصول يمكن تسييلها في سبيل البقاء، أما الأقلية فهي التي ستربح، وتشكّل نحو 5000 مودع موزّعين بين قوى سياسية أساسية، وأصحاب رساميل، وبعض الأزلام إضافة الى بعض المغتربين أيضاً. وهذه الأقلية قالت كلمتها في الرسالة التي أعدّها المستشار كارلوس عبادي، نيابة عن جمعية أصحاب المصارف، مطالباً بتذويب الخسائر عبر استخدام كل الأصول العامة من أملاك وأراضٍ وامتيازات واحتكارات وحقوق، وباستعمال الذهب أيضاً، ومن خلال إجبار الجميع على تجرّع مفاعيل التضخّم. وحجّته في ذلك: الدولة هي المسؤولة، وهي الحجّة نفسها التي يستعملها الحاكم لتبرير تبديد كل الدولارات التي استعملها لإطفاء غضب الشارع ولتحفيز قوى السلطة في النهوض واستعادة نفوذها مجدداً.
لولا سلامة، لم تكن قوى السلطة قادرة على امتصاص صدمة الانتفاضة. له الفضل في استيعاب التظاهرات على أبواب مصرف لبنان والمصارف. وهو قاد حملة إنكار الخسائر في القطاع المالي، مانعاً توزيعها بغير المسار الذي رسمه لسعر الصرف وتضخّم الأسعار. استعمل في سبيل هذا الهدف نحو 21 مليار دولار، لكنه امتنع عن تمويل شراء الفيول أويل لمؤسسة كهرباء لبنان لزوم إنتاج الكهرباء، بحجّة إقراض الدولة. وهي الدولة نفسها التي موّلها على مدى أكثر من 25 سنة بطريقة احتيالية؛ ولم يكتف بذلك، إذ عندما انهارت بنية هذا النموذج، استعمل سلامة ما لديه من أموال في سياسة الدعم الاستنسابي الذي قاد الدولارات مباشرة نحو جيوب حفنة من التجّار، ونظّم الهيركات على الودائع الصغيرة بتعاميم سار الجميع عليها بلا اعتراض (151، و158 وغيرهما)، ثم أصدر تعاميم لا تطبّق عن رسملة المصارف وتعزيز سيولتها الخارجية. ومن خلال التعميم 161 والبيانات الملحقة به، فتح طاقة أمل لكل شخص بالعمل «مضاربجي» والتربح السهل من عمليات الربا النقدية التي يموّلها من الاحتياطات. بذلك، أجبر المجتمع على تجرّع الخسائر مضاعفة عبر رفع الدعم بواسطة القضم والاحتيال… كل ذلك انتهى بمهمة أساسية يتولاها اليوم: تعويض كبار المودعين.