مشروع موازنة العام 2019 يحطّ رحاله اليوم في محطته الثانية في قصر بعبدا. وبخلاف الاعتقاد السائد، فإنّ جلسة مجلس الوزراء في بعبدا لن تكون صوَرية أو شكلية، بمعنى إقرار ما تم التوصّل اليه خلال جلسات النقاش الـ 19 في القصر الحكومي.
ذلك انّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، المُستاء او «المخذول» من «حكومة العهد الاولى»، حضّر جملة بنود يريد إدخالها الى مشروع الموازنة وربما تعديل بنود أخرى كان قد تم التوافق عليها انطلاقاً من مبدأين، وهما: رفع نسبة المداخيل وخفض مزيد من أرقام النفقات، وبالتالي تحسين إضافي لنسبة العجز.
ويبدو انّ عون لن يكون الوحيد الساعي الى إدخال تعديلات على المشروع، بل أيضاً هناك أفرقاء آخرون كانوا قد وافقوا على إقفال باب النقاش خلال الجلسات الماراتونية كسباً للوقت، ولإعطاء صورة مطمئنة الى أنّ الامور سائرة لإنجاز ولادة الموازنة. وهو ما يعني أنّ هناك توقعات أن لا تكون جلسة اليوم وحيدة، الا اذا وافق الأفرقاء داخل الحكومة على التعديلات المقترحة من دون إخضاعها لنقاش مشبع.
وبعد قصر بعبدا هنالك المحطة الثالثة والنهائية في مجلس النواب، حيث يبدو انّ النقاش سيكون صاخباً بسبب المواقف التي ستكون معلنة. وعلى سبيل المثال فإنّ «حزب الله»، الذي آثَر الصمت وخَفض الصوت خلال النقاش داخل الحكومة، يستعد لنقاش أقوى وأكثر صراحة خلال جلسات مجلس النواب، وهو ما لَمّح اليه الأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصرالله في كلمته لمناسبة يوم التحرير.
فخلال الجلسات الحكومية وانسجاماً مع مبدأ «خفض الصوت»، كان تدخّل وزراء «حزب الله» معدوداً كمِثل رفضهم اقتطاع نسبة الـ 15 % من رواتب القطاع العام. يومها، اشترط الحزب ان يطاول الاقتطاع، في حال الاصرار عليه، ذوي الرواتب التي تفوق الاربعة ملايين ليرة لبنانية شهرياً. عندها، تدخّل الرئيس سعد الحريري طالباً وَضع هذا البند جانباً لأنه لم يعد له معنى او فائدة، وهذا ما حصل.
أمّا خلال جلسات مجلس النواب، فسيطرح نواب «حزب الله» مجموعة من التعديلات، كمثل إلغاء ضريبة الـ 3% المقترحة على مواد مستوردة لأنها تطاول كافة الشرائح اللبنانية.
وفي الواقع فإنّ مشروع الموازنة، والذي حمل «إنجاز» خفض العجز الى نحو 7,5%، لا يبدو حقيقياً أو فعلياً بفعل عوامل عدة أبرزها، صحة أرقام الواردات المتوقعة، خصوصاً أنّ توقعات الموازنة السابقة لم تكن مصيبة.
إضافة الى إدراج الدين الجديد من خلال طرح سندات الخزينة، وهو ما يؤدي الى خفض كاذب لنسبة العجز.
وفضلاً عن افتقاد مشروع الموازنة لبنود إصلاحية جدية تشكّل مدخلاً لمحاربة الفساد كما يدّعي الجميع، فإنّ المشروع المقترح يفتقد الى رؤية وخطة اقتصادية تأتي على شكل خريطة طريق لمسار الاقتصاد اللبناني.
وبالتالي، وبدلاً من جعل الموازنة بداية لتركيز دعائم الاقتصاد المستقبلي للبنان، كان هنالك كثير من السياسة في الارقام والبنود الموضوعة. فالنزاع الذي دارَ حول الارقام دار على خلفية النزاعات السياسية وتعزيز القوى السياسية أو تحجيمها. ولم يكن طيف الاستحقاق الرئاسي غائباً بل حَضر وشعر به الجميع، خصوصاً مع الظهور الطاغي للوزير جبران باسيل ورَسمه صورة صاحب القرار.
والقطبة السياسية الأهم كانت مع البند الذي يُطاول العسكريين، وكان قد تم التفاهم حوله قبل انطلاق جلسات مناقشة الموازنة حكومياً بين الحريري والوزيرين علي حسن خليل وباسيل. يومها، دَشّن باسيل المرحلة بالاعلان عن خفض لرواتب القطاع العام، واستكمله لاحقاً بالتركيز على الضباط المتقاعدين، والحديث عن تقصير في مهمات ضبط معابر التهريب عند الحدود وصولاً الى التدبير الرقم 3، وهو ما أدى الى اعتصامات نفّذها المتقاعدون في تحرّك هو الأول من نوعه على الاطلاق.
في الواقع، كانت قيادة الجيش قد عصرت موازنتها وخفّضتها نحو 300 مليون دولار، ووافقت على تجزئة التدبير الرقم 3 ليُطاول زهاء ثلثي عديدها في وقت يتولى الجيش مهمات الحدود والداخل على كامل المساحة اللبنانية. في المقابل، فإنه لا يمكن مساواة الجيش بمؤسسات أمنية أخرى مهماتها مدنية، حيث هنالك المخافر والعمل اليومي العادي، وهو ما يوجب في هذه الحال عدم شمول هؤلاء بالتدبير الرقم 3، وفق ما يقتضيه المنطق.
وكان لافتاً أن يدرج قائد الجيش في «أمر اليوم»، لمناسبة تحرير الجنوب وللمرة الثانية، شكواه من «زمن نَدر فيه الوفاء وتحوّلت التضحية من اجل الوطن تضحية بالوطن وتنكّراً للوعود». وهي عبارات حملت كثيراً من العتب والمرارة من جهات”صديقة”.
في المقابل، كان هنالك من يربط الاشادات الكثيرة التي أطلقها الاميركيون وعواصم غربية أخرى على الجيش اللبناني بتَحسّس جبران باسيل كأحد ابرز المرشحين لرئاسة الجمهورية. وقيل يومها انّ رئيس الجمهورية لم يكن على الموجة نفسها مع باسيل، وطلب وضع الملف جانباً وسحبه من التداول.
في المطلق، فإنّ المرحلة تتطلب تفاهماً داخلياً متيناً وسط عواصف ومشاريع خبيثة تطاول المنطقة، خصوصاً انّ هذا التفاهم أثمَر في موضوع ترسيم الحدود البحرية والبرية، بتعزيز الموقف التفاوضي اللبناني.
فالموفد الاميركي ديفيد ساترفيلد خضع في النهاية للموقف اللبناني لجهة رفض الوسيط الاميركي بين لبنان واسرائيل، وتكريس المفاوضات من خلال الامم المتحدة وعلى أساس لجنة الناقورة القائمة حالياً.
كذلك، سقطت فكرة الفصل بين ترسيم الحدود البرية والبحرية، ولكن وفق صيغة تقضي بمناقشة الحدود البرية في المرحلة الاولى ومن بعدها الحدود البحرية، شرط أن يحصل الاعلان عن الاتفاق في ختام المرحلتين وإلّا سقطت المفاوضات كلها.
وفي الأفق القريب «صفقة القرن» وتوطين فلسطينيي الشتات، إضافة الى ملف النازحين السوريين واحتمال استخدامه في نزاع إنضاج المشاريع، وهو ما يوجِب في نتيجة الأمر وضع الحسابات الداخلية والرئاسية جانباً والتحضير لمرحلة بالغة الخطورة، بدءاً من الموازنة التي طال انتظارها.