يعصرون جيوب الفقراء ويتقشفون في أتفه الأمور، يدورون للاستيلاء على “فلس الأرملة”، وكل ذلك بحجة زيادة الإيرادات وخفض العجز المُزمن والمتراكم في الموازنة العامة. لكن في المقابل يُمعن سياسيونا في سياسة “التآمر” على المال العام، عن طريق الإعفاءات وتكريس الامتيازات لأصحاب رؤوس الأموال وكبار المستثمرين والمصارف، حتى وصل بهم الأمر الى تمرير ثغرة في المادة 30 من موازنة العام 2019، لا يمكن اعتبارها سوى “ضرب احتيال”. نعم الحكومة تحتال على صغار المودعين في المصارف وتسلب الخزينة العامة لصالح حيتان المال.
المادة 30 المتعلقة برفع الضريبة على فوائد الودائع من 7 الى 10 في المئة، طالت جميع المودعين صغاراً وكباراً، حتى أنها طالت حسابات الإدخار مهما صَغر حجمها، واستثنت بكل وقاحة مستثمري سندات الخزينة بالعملات الصعبة (اليوروبوندز)، من دون أي تبرير أو موجب مالي أو قانوني يدفع الحكومة إلى التمييز بين المكتتبين.
إعفاء “الحيتان” من الضريبة
تتعلّق المادة 30 من مشروع موازنة العام 2019 برفع الضريبة على فوائد الودائع من 7 في المئة الى 10 في المئة وتنص على الآتي: خلافاً لأي نصّ آخر، تخضع لأحكام قانون ضريبة الدخل ولضريبة الباب الثالث منه بمعدل 10 في المئة:
1- فوائد وعائدات وإيرادات الحسابات الدائنة كافة، المفتوحة لدى المصارف، بما فيها حسابات التوفير (الإدخار)، باستثناء الحسابات المفتوحة باسم الحكومة والبلديات واتحادات البلديات والمؤسسات العامة لدى مصرف لبنان وحسابات البعثات الدبلوماسية والقنصلية الأجنبية في لبنان.
2- فوائد وعائدات الودائع وسائر الالتزامات المصرفية بأي عملة كانت بما فيها تلك العائدة لغير المقيمين، باستثناء الودائع بين المصارف الخاصة (interbank deposits).
3- فوائد وإيرادات وعائدات حسابات الإئتمان وإدارة الأموال.
4- عائدات وفوائد شهادات الإيداع التي تصدرها جميع المصارف، وسندات الدين التي تصدرها الشركات المغفلة.
5- فوائد وإيرادات سندات الخزينة بالعملة اللبنانية.
التعديل الذي طرأ على هذه المادة في موازنة 2019 هو كلمة “العملة” في البند رقم 5، بحيث تغيّر النص المعتمد بموجب القانون رقم 64/2017 وهو “فوائد وإيرادات سندات الخزينة اللبنانية” ليصبح في موازنة 2019 “فوائد وإيرادات سندات الخزينة بالعملة اللبنانية” وبذلك تكون الضريبة المنصوص عنها في المادة 30 سقطت عن سندات الخزينة بالعملات الأجنبية (يوروبوندز) وأصبحت الأخيرة مُعفاة من هذه الضريبة اعتباراً من اليوم التالي لتاريخ نشر قانون موازنة العام 2019، وإلى الأبد على ما يبدو.
خسائر الخزينة مئات المليارات
قبل الدخول في التداعيات السلبية لتعديل البند 5 من المادة 30 من مشروع موازنة العام 2019 لا بد من التذكير بأن هذه الضريبة منصوص عنها بشكل واضح وصريح في قانون موازنة العام 2003، أي أنها فُرضت على فوائد وإيرادات كافة سندات الخزينة اللبنانية (بالليرة أو بالعملات الصعبة)، من دون أي تمييز بين العملات التي تصدر بها السندات. ولكن بعد العام 2003 أعفيت اليوروبوندز من موجب سداد الضريبة بطريقة غير مباشرة، وبقرار من وزير المال آنذاك فؤاد السنيورة. إذ باتت تنزّل من أرباح المصارف نهاية كل عام. واستمر حال الإعفاء حتى العام 2017 حين عادت وأقرت الضريبة على الفوائد في القانون رقم 64/2017 وشملت كافة السندات. أما اليوم فتحاول الدولة إعفاء حيتان المال من جديد من الضريبة على سندات الخزينة بالعملات الأجنبية (اليوروبوندز) على حساب حرمان الخزينة العامة من الإيرادات المالية.
تعديل المادة 30 وإسقاط الضريبة عن سندات الخزينة بالعملات الأجنبية من شأنه سلب الخزينة العامة مئات مليارات الليرات لصالح المصارف وكبار المستثمرين، وتقدّر خسارة الخزينة جراء إعفاء اليوروبوند من الضريبة بنحو 326,6 مليار ليرة.
ولا تقتصر خسارة الخزينة على هذا المبلغ بل تخفض قيمة الضريبة على سندات الخزينة اللبنانية، التي كانت ستتوجب في ما لو لم يرفع معدلها من 7 في المئة إلى 10 في المئة:
فلو احتسبت الضريبة بنسبة 7 في المئة لبلغ مردودها:
(5046+ 3266) * 7% = 581.84 مليار ليرة.
أما احتسابها وفقاً للنص المعدل للفقرة (5) من المادة 30 في موازنة 2019 فيؤمن مردوداً يبلغ:
5046 * 10% = 504.6 مليار ليرة
مما يعني خفض قيمة الضريبة التي كانت ستستحق في ما لو لم تعدل النسبة من 7% إلى 10%، بقيمة 77.24 مليار ليرة.
وإذا أضفنا إلى هذا المبلغ، ما كان سيترتب على فوائد سندات الخزينة بالعملات الأجنبية في حال لم يتم استبعادها أي:
3266 * 10% = 326.6 مليار ليرة
وبالتالي لبلغت قيمة خفض الضريبة عملياً 403.84 مليار ليرة.
وهذا ما يبرر سكوت أصحاب المصارف على رفع نسبة الضريبة من 7% إلى 10%، ويعني أن عبء زيادة المعدل تقع على المودعين وتستفيد منه المصارف.
مخاطر نقدية؟
أثر سلبي آخر يرتبط بتعديل المادة 30 هو أن إسقاط الضريبة عن سندات اليوربوندز سيشجع المستثمرين على شراء السندات بالعملات الأجنبية ويثنيهم بالمقابل عن شراء السندات بالليرة لخضوعها لضريبة الـ10 في المئة، الأمر الذي قد يحتّم على مصرف لبنان شراء السندات بالليرة، وتغطية عجز الإكتتاب بالليرة وهو ما يمكن أن يؤدي الى مخاطر مالية ويدفع مصرف لبنان للدخول في مغامرة قد لا تُحمد عقباها.
يُذكر أن حصّة مصرف لبنان من سندات الخزينة بالليرة ارتفعت في السنوات الماضية إلى مستويات غير مسبوقة. وصلت فيها حصّة مصرف لبنان أواخر العام 2018، إلى 51,5 في المئة مقابل حصّة للمصارف تبلغ 34,1 في المئة وحصّة للقطاع غير المالي تبلغ 14,4 في المئة.
تآمر مقصود
لا يبدو تمرير الحكومة تعديل المادة 30 من مشروع قانون موازنة 2019 وإعفاء سندات الخزينة بالعملات الأجنبية من ضريبة الـ10 في المئة بريئاً، وإن كان معتمداً في بعض دول العالم. فقد اختلف خبراء الاقتصاد في قراءته بالرغم من توافقهم على عدم صوابية الإجراء في المرحلة الراهنة، ومن بينهم الخبير الاقتصادي الدكتور لويس حبيقة، الذي أكد في حديث الى “المدن” أنه لا يرى في إعفاء سندات اليوروبوندز من الضريبة أي خطورة، واضعاً الاجراء في خانة تشجيع المكتتبين الأجانب وجذبهم لشراء السندات بالعملات الصعبة، وذلك رغم عدم تأييده للتمييز بين المكتتبين من حيث موجب الضريبة.
خبير اقتصادي آخر، فضل عدم الكشف عن اسمه، لم ير في حديث إلى “المدن” في إسقاط الضريبة عن اليوروبوندز سوى تآمر على المال العام لصالح أصحاب الأموال وحيتانها، واصفاً فرض الضريبة على أموال جميع المودعين من دون الأخذ بالاعتبار حجم ودائعهم في مقابل إعفاء اليوروبوندز من الضريبة بـ”الفضيحة”.. فـ”نص المادة متآمر وخالٍ من أي رؤية اقتصادية”.